10 Nov
10Nov


  كانت السلالم المهجورة تمتد كثعابين حديدية نحو الأعلى، 

صاعدة من باطن الأرض إلى حيث لم يعد أحد يجرؤ على الذهاب. 

صعدت إيمان تلك السلالم بخطوات ثابتة.. ومع كل خطوة كانت تراجع مؤشرات الأوكسجين في الساعة على معصمها،  ثم فتحت القفل الصدئ لباب الخروج.

 ريح رمادية اندفعت في وجهها كأنها تصفعها بذكرى الكارثة القديمة.

 اغمضت عينيها لحظة وابتسمت.

أخرجت هاتفها وبدأت تكتب:

  "السطح… قيل لنا أنه لم يعد مكانًا للأحياء، لكني لستُ ممن يسلِمون ." 

من خلف خوذتها، ظهر ضوء أزرق خافت؛ واجهة برنامج التواصل "إيكوسفير"  البرنامج شبه المهجور الذي كان يجمع المستكشفين قبل انهيار المدن السطحية. 

فتحته من جديد.  قبل أن يظهر شعاره الباهت، وصوت آلي: «تم تفعيل البثّ المباشر – مشروع: إحياء السطح 11.» 

بعد لحظات، بدأت الرسائل بالظهور في طرف شاشتها: 

ريمي: أهذه أنتِ مجددًا؟ مجنونة السطح؟ 

 فارس: هي الوحيدة التي تجرؤ على المجازفة، دعوها تجرب.

 سيرا: البيانات الصوتية ضعيفة، لكن الصورة واضحة… مرحبًا بك، إيمان.

تنفست بعمق، وهي تثبّت الكاميرا في صدرها وتقول:

"أحتاجكم شهودًا، هذه المرة… سأعود بنتيجة." 

بخطوات متشككة سارت فوق أرضٍ لا تشبه الأرض التي وُلدت عليها.

 سطحٌ متشقق كجلدٍ محترق، 

والهواء ثقيلٌ برائحة المعدن والرماد. 

وعلى بعد مسافة ليست بالقصيرة توقفت عند حافة وادٍ جاف، يطل على أطلال مدينةٍ كانت يومًا تنبض بالحياة. 

 كتبت لها ريمي: «الحياة لا تموت، بل تتخفى لتنتظر من يجدها.»

ابتسمت عندما قرأتها لكنها لم تكن متأكدة إن كانت ما تزال تؤمن بتلك العبارة، لكنها تابعت السير.

 كانت آخر باحثة في برنامج "إحياء الغطاء الحيوي"، المشروع الذي فشل حين فقدت البشرية آخر غاباتها، فهاجر الناس إلى المدن المقفلة تحت الأرض وتركوا السطح يحتضر وحيدًا.   

  الاكتشاف

اشتدت الرياح الجافة تزحف على السهول الرمادية، 

 بينما ثبتت ايمان جهاز المسح الطيفي على الأرض، تراقب الخطوط المتقطعة على الشاشة .

وبين طبقات الضجيج الكهرومغناطيسي، ومضة خضراء خافتة لمعت لوهلة قصيرة جداَ لدرجةٍ جعلتها تشكّ في عينيها.  خفضت الجهاز، أعادت ضبت المعايرة، ثم عادت لتحدّق.

تكرّرت الإشارة.  ذبذبة حيوية، ثابتة هذه المرة. 

هتفت عبر البث:  "إشارة حياة؟ هنا؟" 

ومن تحت الأرض تعلقت عيون متابعيها بالبث على الشاشة الصغيرة. أما هي فواصلت تتبع الإحداثيات حتى أخذتها إلى منخفضٍ صغير مغطى بالرماد والطين اليابس. 

 ركعت أرضًا، وأزاحت الطبقات بحذر. قبل أن يتفتّت الطين بين أصابعها، كأنه جلد جاف ومحترق.. جلد كوكبٍ ميت…

 أخرجت عدستها الميكروسكوبية المحمولة، ووجهتها نحوه.  

ظهرت على شاشتها أنسجة دقيقة متشابكة مع بلورات لامعة. 

 بتردد:  "نسيج عضوي... لكنه مزيج من معدنٍ وحياة."

واصلت الحفر ، وكلما أزاحت طبقة من الرماد، كان الضوء تحتها يتنفس أكثر، 

حتى لمع من قلب الأرض وهجٌ أخضر خافت.  مدّت يدها نحوه بحذر، وعندما لامست سطحه لأول مرة  اشتعل الضوء فجأة،

 ومضة حادة كأنها صرخة. تراجعت خطوة إلى الوراء. فقد انطفأت شاشات القياس للحظة، وارتفع صوت صفير حادّ.

 لكن بعد ثوانٍ، خمد الوميض، وتحوّل الضوء إلى نبضٍ هادئٍ متواتر، وكأن ذلك الشيء أدرك أنها ليست خطرًا.

اقتربت مجددًا، وجلست أمامه، تتأمله في صمتٍ. 

 ورقة صغيرة بلونٍ أخضر لامع تتفتح ببطء، تنبض بإيقاعٍ يشبه دقات القلب.  وضعت عينة من طرفها تحت المجهر، فظهرت الخلايا على الشاشة:  ليست خلايا نباتية خالصة، بل أنسجة متشابكة بخيوطٍ بلورية دقيقة، تبثّ وميضًا متقطعًا. قرأت القياسات بسرعة:

 طاقة فوتونية عالية… تفاعل كهروعضوي نشط… إشارات تنظيم ذاتي. 

 بدهشة:  "هذا… ليس نباتًا فحسب، إنه نظام بيولوجي ذكي." 

راقبت النقاط المضيئة في الخلايا، ترسل ومضاتٍ قصيرة كأنها تحاول قول شيء لا تستطيع فهمه. 

 ابتسمت وهتفت مرة أخرى من خلال البث: “الكائن الأخير على السطح تعلّم الدفاع عن الحياة، حين نسي البشر كيف يفعلون ذلك.”  

  الحماية  

أمضت إيمان نصف ساعة حول النبات، تراقبه وتدون الملاحظات عبر البث. 

 كان الضوء الأخضر يشتدّ حين تقترب منه، ويخفت حين تبتعد. 

 أدركت أنه حساس لكل حركة، كأنه يقرأ نبضها.

مدّت يدها بحذر نحو الحقيبة، وأخرجت ألواحًا مرنة من النسيج العازل للغبار  غرزت أعمدة صغيرة حول النبات، ثم مدت النسيج فوقها لتصنع مظلة نصف شفافة تقيه الغبار والحرارة دون أن تلمسه.

 وحين انتهت، جلست أمامه تراقبه.  

 الرصد 

في أعماق الأرض، خلف جدرانٍ معدنية لا ترى الشمس، كانت الشاشات تومض بوميضٍ أخضر شاحب.

 الهواء مفلترٌ ومكرر، لا يحمل رائحة حياة، فقط صدى الأنفاس الميكانيكية لمن يعيشون في المدن السفلى.

في مركز الرصد المركزي، تجمّع عدد من الموظفين حول شاشةٍ ضخمة تُبثّ عليها صورة إيمان بشعرها المبعثر، عيناها المنعكستان في الضوء الأخضر، وابتسام متمردٍة على جفاف العالم.

المراقب 1: "التحليل يؤكد نشاطًا فوتونيًا غير معروف المصدر."  

المراقب 2: "هي تبثّ مباشرة عبر إيكوسفير. عدد المشاهدين تجاوز الثلاثمائة ألف."

 القائد:  "احصلوا على إحداثيات الموقع فورًا. نرسل وحدة الاسترجاع."

المراقبة بتردد "هل يمكن أن يكون ما تقوله صحيحًا؟ أن الحياة هناك... عادت؟" 

 القائد: "في الأعلى لن يعود شيء بدون إذن الهيئة." 

العودة بدون تمهيد أو دراسة قد تدمر كل شيء

 ثم، في زاويةٍ بعيدة من القاعة، كانت الشاشة الجانبية تعرض بثًّا فرعيًا: غرفة صغيرة يسكنها أحد الشباب في المدينة السفلى.  كان وجهه يضيء بانعكاس البثّ، يهمس لنفسه: "لو نبت شيء هناك... ربما يمكننا الصعود من جديد."

لكن في الطابق العلوي، أصدرت الأنظمة أمراً آليًا: 

"تم تحديد الإحداثيات — منطقة 7، السطح الغربي المهجور."

في اللحظة نفسها، على سطح الأرض، كانت إيمان لا تزال تجلس بجوار النبات، تحتمي بظلّ الغشاء الشفاف.  لم تكن تدري أن السماء الرمادية بدأت تتقطع بضوءٍ معدني بعيد  صوت محركاتٍ تقترب.  

  مواجهة  

أدركت إيمان الصوت قبل أن ترى مصدره 

 أزيزًا معدنيًا يقطع الأفق الرمادي.

 رفعت رأسها.  ثلاث مركباتٍ سوداء تقترب بخطٍ مستقيم، تثير خلفها الغبارً.

وقفت أمام النبات، لتحميه، والغشاء الشفاف ما يزال يلمع فوقه كقشرة ضوءٍ خافتة.

 حين توقفت المركبات، خرج منها رجالٌ بملابس واقية وخوذٍ .

 على صدورهم الشعار القديم للهيئة البيولوجية. 

القائد: "إيمان عواد، بناءً على الأمر 47/ح، تُصادر الهيئة أي كائنٍ عضوي ذي نشاط طاقي خارج المنشآت المصرّح بها."  إيمان: "هذا ليس كائنًا صناعيًا… إنه حيّ. الأرض صنعته، لا أنتم."

تقدّم أحد الفنيين، وجهه نصف مخفي بالخوذة. مدّ جهاز المسح نحو النبات، فاندفع الضوء الأخضر فجأة، ومضة حادة كأنها شهقة من نور.

 تراجع الرجل، والجهاز في يده يطلق صفيرًا متصاعدًا. 

الفني: "الطاقة تتضاعف! إنها تستجيب للتهديد!" 

 القائد: "أبعدوها. وخذوا العينة فورًا." 

تردّد الضوء مرة أخرى، لكنه هذه المرة لم يكن دفاعًا.

 الوميض تسرب من تحت الغشاء، ليمتد من خلال الرمال، كأن الأرض تتذكّر شكل نبضها الأول. 

 انحنت إيمان قليلًا، تراقب الخيوط الخضراء الدقيقة وهي تزحف حول النبات، ثم تواصل مسارها في دوائر صغيرة، تتسع ببطء كأنها ترسم خريطة حياة جديدة، 

وكأنها عروق دماء خضراء استيقظت من جديد. 

كلما اقتربت أنفاسها، ازداد الضوء توهجًا، كاستجابة لوجود مخلوق حي بالجوار.. 

لوجود كائن آخر يتنفس.. 

كانت الكاميرا ما تزال تبث، رغم ضعف الإشارة. 

 في المدن السفلية، تسللت الصورة عبر الجدران المعدنية ، 

 شاشات الملايين تنبض بنفس الوميض،  وجوهٌ باهتة تقترب من الضوء وكأنها تلامسه من بعيد.

«إنه يتفاعل معها!» 

 «ا… الضوء ينتشر!»  

«هل نعود؟» 

 «السطح يتنفس...»

تعليقاتٌ تتسارع، بعضها مذهول، بعضها يبكي. 

 في أحد الملاجئ، أطفأ رجلٌ جهازه بصمتٍ وراح ينظر إلى سقفٍه الرمادي كأنه يرى السماء للمرة الأولى منذ عقود.

 وفي زاويةٍ أخرى، فتاة صغيرة تهمس: "ماما، هل هذا اللون حقيقي؟" 

أما في الأعلى، فوق هذا كله، كانت إيمان تقف أمام الضوء،  عيناها تتابعان تلك الخيوط الخضراء التي تنسج ببطءٍ على سطح الأرض،

 وفي صوتها ارتعاشه تشبه بداية صلاةٍ منسية:

  "ربما لم تعد الأرض بحاجة إلينا... كي تشفي نفسها مرة بعد مرة."  

البعث

  ايمان ، تستمر في بث الملاحظات بصوتٍ مرتجف: "النسيج يلتقط الضوء ويعيد توزيعه… وكأنه يحوّله إلى نبض طاقة. نظام دفاعي، حيويّ، ومتعقّد."

تراجع أعضاء الفرقة البيولوجية ببطء، 

 لم تصدر عنهم أوامر ولا ملاحظات.

 أجهزة القياس في أيديهم كانت تومض بأرقامٍ غير مفهومة،

 حرارة الأرض ترتفع دون مصدر، والمجسات تسجّل نشاطًا عضويًا لا يشبه أي نمطٍ معروف. 

القائد: "هذا مستحيل... النبات يستجيب لتردد صوتي، وليس ضوئي!" 

 إيمان: "أحيانًا، الأشياء تعرف بعضها وكذلك الأحياء."

صمتت الأجهزة واحدًا تلو الآخر، وكأنها تخلّت عن تفسير اللحظة.

 فلم يعد هناك ما يُقاس.

  النهاية 🌱  

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.