29 Sep
29Sep

فتحت عيناه كقطعتي جمرٍ في الظلام،

 فرأى أمامه أضواء باهتة ..

تمر خلف نافذة زجاجية مُغَشّاة بالضباب.

 شعر بكيانه يتمايل مع حركة القطار، 

وصوتٌ معدنيٌّ متواصل يملأ أذنيه. 

رفع يده إلى رأسه وشعر بدوارٍ خفيف،وألم

. في رأسه بزغ سؤال ..أين أنا؟ 

بل من ..من أنا؟ 

نظر حوله، فوجد نفسه جالسًا في مقعدٍ قديمٍ من القماش المخملي الأحمر،

 بين ركابٍ يبدو عليهم الإرهاق. بعضهم غارق في النوم، وبعضهم الآخر يحدق في شاشة هاتفه.

 وكأن كل من حوله يسبح في عالمٍ موازٍ ولا يراه. 

بينما ضجيج القطار ينساب في أذنيه مثل هدير بعيد،

 لكنه لم يبعث الطمأنينة، بل زاد إحساسه بالعزلة. وأحسّ أنه دخيل على هذا المكان، 

كأنه استيقظ في مسرحٍ بعد انفضاض الجمهور، ليجد نفسه الوحيد الذي لم يغادر.

لكنه هنا ولا يعرف لماذا هو هنا، ولا إلى أين يذهب.

 كانت الأسئلة تتدافع في رأسه كأسراب طيورٍ مذعورة، لكنها لا تترك أثرًا سوى ارتباكٍ خانق. 

حاول أن يستعيد بعض الذكريات، فمدّ ذهنه إلى الوراء كمن يمد يده في بئرٍ مظلمة،  فكل ما وجده هو فراغٌ.. 

فراغ بلا قاع.

 عقله صحراء مقفرة، رمالها ساكنة لا يلوح فيها أثر حياة. لا وجوه، لا أسماء، لا أماكن. 

حتى صوته الداخلي بدا غريبًا عليه، كأنه يسمع رجع صداه من بُعدٍ سحيق.

 عاد ينظر من خلال النافذة، حيث بدأ الضباب يختفي تدريجيًا 

والأضواء الخارجية تصبح أكثر وضوحًا، 

في البعيد ارتفع هيكلٌ معدنيٌ هائل، يتلألأ بنقاط ضوءٍ ذهبية كنجومٍ معلّقة، تتشابك قضبانه في رسمٍ هندسي دقيق بدى شامخًا فوق أبراجٍ حجريّة رمادية وأسقفٍ مائلة تتلألأ تحت وهج المصابيح، فيما نهرٌ عريض يلمع كالشريط الفضي عند سفحه. كان يعرف هذا الشكل…

 لكن من أين؟ 

ارتجف جسده وهو يحدّق في ذلك البناء الفولاذي الذي يلوح كطيفٍ من رحلةٍ بعيدة. شيءٌ في صدره تحرّك؛ ذكرى خاطفة، طيفُ صوتٍ يناديه باسمٍ غابر. 

حاول أن يمسك الخيط، لكن الذاكرة انزلقت منه مرة أخرى.

 ارتطمت عجلات القطار بالسكك بقوةٍ أكبر، فاهتزّ المقعد تحته.

 التفت إلى الركاب. كانوا كما هم: رؤوس منحنية، ووجوه بلا ملامح، أو هكذا خُيّل إليه. 

حاول أن يدقق فيهم أكثر عله يجد جواب، 

 لكن عينيه اصطدمتا بشابٍ يجلس على الجانب الآخر. 

كان يحدّق به. نظرةٌ ثابتة، عميقة، كأنها تخترق الضباب الذي يغلف ذاكرته، كأنه يعرفه… ويعرف أنه يحاول أن يتذكّر.

 لوهلة شعر بإحساس مباغت يشبه الأمل. 

ربما يكون هذا الغريب حبل نجاته، اليد التي يمكن أن تنتشله من هذا التيه. ربما يحمل كلمةً واحدة تعيد له كل ما فقده. فتح فمه ليقول شيئًا، أيّ شيء، 

لكن القطار دخل نفقًا مظلمًا. انطفأت الأضواء فجأة، وابتلع السواد كل ما حوله. لم يبقَ سوى ومضةٌ خاطفة لذلك الهيكل المتلألئ في ذاكرته، وصوتٌ خافت، أقرب إلى همس الريح، يناديه باسمٍ لا يذكره. 

ثم سمع الكلمة بوضوح: «ارجع».

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.