اكتشاف
صباح و يوم رماديّ،
هكذا رردت لنفسها وهي تجلس أمام كومة أوراق على المكتب تستعد لأمتحان أول فصل لها في كلية الهندسة .
حين لمحت حقيبةً جلديةً قديمةً مهترئةً كانت مكدَّسة خلف صندوق ألعاب طفولتها القديم الذي طل في مكانه ذاك منذ سنوات دون فتح. بمحاولة للتهرب من الدرس إنحنت وشدت الحقيبة بحجة أن عليها ترتيب المكان
سحبت الحقيبة وهي تتسائل: «متى استخدمتُ هذه آخر مرّة؟»
عندما فتحت السحّاب الصدئ، وقع نظره على ظرفٍ أبيض غير مختوم، وعليه اسمها مكتوببخطه الطفولي
بلا شك، كتبت ذلك في الإبتدائية
لكن التاريخ المدوَّن على أعلى الظرف أربكها قليلا : 30 / 9 / 2029. كان اليوم 15 / 4 / 2025!
ضحكت وهي تحاول أن تتذكر ماذا كنت تلك اللعبة ولمذا كتبت حينها تاريخا مستقبلية
فتحت الظرف على عجل ، في الداخل ورقة مطويّة بعناية:
كانت الورقة تحتوي على قائمة عنونت ب
قواعد للعبور بسلام:
1- احذري قراراً تظنيه صغيراً سيُغيّر حياتك. 2- لا تهملي شغفك، ولا تركني لضغط الآخرين. 3- من حولك لا يمكنهم رؤية ما ترينه أنت لنفسك
4-إن أردت نتائج مختلفة عليك بطرق مختلفة أيضا، 5- صديقتك المقرّبة ليست كما تظنين.
5- المستقبل ليس خطّاً مستقيماً، بل شبكة خيارات…»
ارتجفت قليل وهي تعيد قرآءة الكلمات مرة بعد مرة
الكلمات المكتوبة بخطّها ، كأنّ نسخةً مستقبلية منها هبت مع الريح لتقدم لها تحذيراً.
طوت الورقة ووضعتها داخل دفتر وأغلقتهأ، لكن قلبها بقي مفتوحاً على أسئلةٍ لا تُحصى.
تردد
منذ عامها الأول في الكلية وهي تعيش صراعاً صامتاً. والداها يريدان له أن تتتخصّص في الهندسة، بينما كان قلبها يرفّ كلما جلست تكتب أوتعدل نصا لقصة قديمة تحولها كما يحلو لها أن أتكون بطريقتها الخاصة
. كتبتت عدة قصص منها واجبات لصديقتها في كلية الآداب كتبت سيناريو مسرحي، وفازت بمسابقة محليّة لكنها لم تجرؤ على إخبار والديها.
الخارج يضغط عليه بدرجات الامتحانات، والداخل يضغطه حلمٌ مزركش يريد أن يتنفّس. وسط تلك الضوضاء، كانت صديقتها المقرّب تمدّها بجرعاتٍ من التشجيع…
أو هكذا ظنّت.
صدى
كانت قد نسيت أمر الرسالة تمام
قبل أن تعود لتظهر أمامها مرة أخرى متدليا من الحقيبة نفسها
أخرجتها وقرأتها مرة أخرى
حاولت أن تقنع نفسها بأنّ لا معنى لها.
محض لعبة طفولية لا تذكر متى ولماذا كتبتها
ومع ذلك بقيت الكلمات تتردّد في ذهنها كلّما رأت صديقتها التي تدرس في كلية الآدب
أقتنعت نفسها بأن شعورها المتوجس ربما ينبع من رغبتها هي في أن تدرس في نفس الكلية
ربما كل هذا بسبب شغفها الذي ترغم على تجاهله من أهلها
ذات يومٍ شاركتهاصديقتها عرضاً لكتابة سيناريو مسرحي جديد
مشاركة في مهرجان جديد على مستوى المملكة ،
طلبت منها كتابة العمل وحدها .
وأقنعتها بأن السيناريو سوف يكون باسميهما كليهما
في البداية تردد فالعرض ليس من العقل في شيء
لكنها صديقتها منذ وقت طويل
قطعت معها أيام ومواقف وقصص كثير لا تحصى
لكن، كانت الرسالة تُحكِم قبضتها على تفكيرها: أهي نبوءةٌ حتميّة أم تحذيرٌ قابل للتعديل؟
ترددت كثير في الموافقة لكنها أخيرا قبلت
فالورقة بلا معنى
سقطت بين أوراقها لا تذكر متى كتبتها
بالأضافة إلى أنها لم تذكر إسما الرسالة لم تحدد شخصا بعينه صديقتك المقربة هكذا
ووافقت،
في الأيام التالية لذلك عملت بجد وحماس على السيناريو
وعلى كل تفاصيله
كل يوم كل لحظة في أيامها تحولت إلى شعلة من الشغف والنشاط والبحث والتفكير
حتى النهاية وحتى تم تسليم العمل
لكن المسرحية ظهرت لاحقاً باسم كاتب آخر
نفس النص نفس القصة التي كتبت بعنوان مختلف وموقعة باسم شخص أخر لا تعرفعه
عندما واجهت صديقتها ، اكتفت الأخيرة بابتسامةٍ باردة: «مجرد عمل سوف نتقاضى بسببه أجراً محترماً. لا تقلقي أنت مبدعة
يمكنك كتابة غيره في أي وقت ». كانت كلماتها تلك
تضيئ العبارةفي رأسها : «صديقتك المقرّبة ليست كما تظنين».
أحينا من هول ما يرى المرأ يصبه تجمد لحظي يعجز فيه عن التصرف وعن التفكير أيضا ليست بحاجة إلى المزيد لتضع تنبيه الرسالة نصب عينها بعد الآن
المنعطف
بلغ الضغط ذروته بعد صدور نتائج الفصل؛ تراجع معدلها كثيرا ، فوبّخها والدها. شعرت أنّ الأبواب تُغلق واحداً تلو الآخر. تلك الليلة جلست في غرفتها تحدّق في الرسالة، ولاحظت سطراً لم تكن انتبهت إليه:
«الرسالة ليست قانوناً، بل مرآةٌ لنياتك.»
أغمضت عينيها، واستعادت في رأسها كلّ قرارٍ اتخذته يناسب ويرضي الآخرين على حساب نفسها. أدركت أنّ ما تكرّره ليس الفشل في العلاقات ولا الفشل في الكلية ، بل الفشل في الإصغاء لصوتها الداخلي.
الحسم
صباح اليوم التالي ذهب مباشرةً إلى كلية صديقتها ، وقالت بهدوء:
– ، ما فعلته بنصي لم يكن مجرّد عمل. لقد استغليتني.
– لا تكبّري الموضوع، كلّنا نستغلّ الفرص.
– ربما… لهذا أريد المبلغ كاملا سعر نصي الذي بعتيه وكأنه لك
ماذا .عن ماذا تتحدثين
نسيت أن أخبرك عندما توجست منك وقتها جمعت كل الدلائل التي تثبت أن النص لي حتى محادثاتنا ورسائلك الصوتية لا مفر للإنكار أرسلي لي تعويضي عن ما فعلته وإلا ستعوضينني أنت و شريكك الذي بعتي نصي له في المحكمة
محكمة هل يصل بك الأمر لأن تقاضي صديقتك
قلتها أنت قبل قليل كلنا نستغل الفرص أوراق القضية جاهزة وأنا لن أنتظر أكثر من أربع وعشرين ساعة
ثم ابتعدت تاركاً خلفها صداقةً تشقّقت منذ زمن لكنها لم تجرؤ على فحصها.
بعد الظهيرة جلست مع والديها أرتهما اسمها في جائزة المسرحية المحلية وعدة مشاركات في مسرح الجامعة وخارجها
صمت الأب طويلاً ثم قال:
– لم أكن أعرف أنّك قطعتَ هذه المسافة وحدك. أعطني فرصة لأفهم أكثر.
كان ذلك كلّ ما تحتاجه من ضوء تتسلّل إلى جدارٍ سميك
العبور
على مدى الشهور التالية، قسّمت يومها كالتالي : ساعات للدراسة الأكاديمية، وأخرىللكتابة قصص ونصوص وحتى العمل على مشاريع مدفوعة صغيرة.
تحسّنمعدلها كثيرا ، لكن مفاجأةً وصلت عبر البريد الإلكتروني: منحةٌ جزئية من معهد كتابة دولي تشترط ملف أعمالها، لا معدل الجامعة.
جلست تلك الليلة تكتب رسالةً جديدة:
«إلى 2029،
شكرًا لأنك كتبت لي قبل سنوات من الأن، لكني أدرك الآن أنّ اليدَ التي خطّت الرسالة هي نفسها اليد التي تختار مصيرها كلّ يوم.
و أننا نحن مَن نكتب رسائلنا، ونحن مَن نختار إن كنا سنقرأها بوصفها أوامر حتمية… أم دعواتٍ مفتوحة للتغيير.
أدرك أيضا أنّ الخوف صوتٌ داخلي يمكن تحويله إلى بوصلة.»
طوت الورقة وضعتها في ظرف، كتبت التاريخ 30 / 9 / 2039، وأعاد الحقيبة القديمة إلى مكانها. هذه المرّة لم تكن تنتظر معجزةً من المستقبل، بل تركت البذرةً إلى حين يزهرها الحاضر.