كانت "ليليث" آخر من يتذكر الأغنية الكاملة للنهر.
ليس النهر الذي يراه أهل القرية الآن، مجرد جدول شاحب محبوس بين سدود حجرية فرضها "مهندسو النظام الجديد".
بل النهر الحقيقي، النهر الخفي الذي كانت تسمع قصته من جدتها.
تلك القصة التي كانت ترويها الجدة عل مسمعها منذ الطفولة
القصة التي ورثتها الجدة عن جدتها أيضا على مرار أجيال متعاقبة
بعيداً عن الأعين هناك بقايا حقيقية للنهر ينساب تحت جلد العالم، يغذي جذور الحياة بألحانه العذبة.
ورثت ليليث الذاكرة، وليس فقط الككلمات، ورثت ذاكرة جداتها كإحساس في باطن قدميها عندما تمشي حافية على الأرض، كرجفة في قلبها عندما تستمع إلى حفيف أوراق الشجرة الوحيدة المتبقية على الضفة القديمة.
الضفة التي قالت جدتها أنها كانت مصبا للنهر
المكان الذي اعتادات نساء القرية منذ مائات السنين على التجمع عنده
حيث يمدهم النهر بالقوة والحياة ..
كانت ليلث ترى ومضات من لونه الحقيقي – أزرق عميق يعكس ضوء الشمس – في أحلامها، وتسمع صدى تدفقه العظيم في أعمق لحظات صمتها.
"مهندسو النظام الجديد" يؤمنون بالخطوط المستقيمة.. والسيطرة المطلقة. .وصلوا قبل جيلين، حاملين خرائطهم الدقيقة وآلاتهم الحادة والقادرة على شق الصخر. قالوا إن تدفق النهر القديم "فوضوي" و"غير منتج". بنوا السدود، وحولوا مجراه، وأعلنوا أن الماء الآن "مُروّض" الماء الذي كان فوضوي وثائرا وتسبب قديما في في الضرر والأذى لعائلات القرية وتدميرها أو هكذا أقنعوهم..
النهر كما أعلنوا كان بحاجة إلى ترويض فهو يضر ويدمر كل من جرؤن من النساء على الإقتراب منه وكل من شربت منه خدعت بعذوبة مائه
هو الآن مروض وتحت السيطرة و"يخدم الهدف الأسمى" وليعم الخير والرفاه لكل سكان القرية
وليتم ذلك على أكمل وجه فُرض على النساء في القرية الإبتعاد عن منافذ النهر فبريقه خادع لأعينهن ومن السهل أن يغريهن ذلك بفتح سدوده فيعود الفيضان..
والفيضان يعني خراب القرية ..
وكما حكت لها جدتها عن أيام الرخاء للنهر
فإن جدادات أخريات كان لهن حكايات مختلفة عن قصة النهر الغادر و المدمر
حكايات عن فيضاناته التي جرفت البيوت، وعن دواماته التي ابتلعت من تجرأت على الاقتراب منه
لكن ليليث تثق بجدتها وحكابتها التي كانت تصر على أن تلك القصص منها ماهو حقيقي ومنها ماهو محض أكاذيب
وأن مهندسو النظام الجديد استغلوا كل قصة مأساوية قديمة، حقيقية كانت أم من نسج الخيال، وضخموها.
صوروا النهر كوحش لا يمكن التنبؤ به، يتربص بالضعفاء، وخاصة النساء والأطفال من لديهم نقاط ضعف خطيرة
هم فقط قد يغريهم صفاء مائه الظاهري.
النساء، بطبيعتهن العاطفية المرهفة، هن الأكثر عرضة لـ'سحر' النهر الخادع وتقلباته،
مئات النصائح وعشرات التوجيهات لنساء القرية لتوعيتهن
"عذوبة مائه قد تسلبكن الحكمة، وتدفعكن إلى قرارات تندمن عليها. لقد خدع جداتكن من قبل، وجلب الدمار لعائلات بائسة. تلك الأغاني التي كن يغنينها له لم تكن إلا تعاويذ ضلال
كما حكت الجدة أعلن مهندسو النظام الجديد:نحن هنا لنحميكن. لنحمي عائلاتكن من هذا الخطر المحدق." رفعوا شعار الأمان والاستقرار.
"الماء المروض، الماء الذي يسير في قنواتنا المستقيمة، هو ماء آمن، ماء يمكن الاعتماد عليه. لن يغدر بكن، لن يدمر بيوتكن، لن يسرق أطفالكن." قدموا السدود والقنوات كحصن منيع ضد "ثورة النهر وعشوائيته" فرضت على النساء أعمال محددة، لا يجب أبدا تغيرها وهذا طبعا لحمايتهن وبحمايتهن تضمن الحماية للقرية كاملة
من ضمن القوانين وأن يتوقفن عن إظهار القوة والحكمة فهي مدمرة لهن وعلى المدى الطويل سوف تصيبهم بالوهن،ومن يدري ربما يتسبب ذلك في عودتهن للنهر الخادع
حملت الأبواق والمنشورات مجموعة من النساء جانبا إلى جنب مع مهندسو النظام الجديد نشرنها في كل مكان حكونها لللأبناء والأحفاد
ومع تقادم الزمان وتراكم القصص والحكايات معظم الناس نسوا، أو اختاروا أن ينسوا.
قالت الجدة ذات مرة أنها تذكر في طفولتها أماكن خضراء ومزدهرة في القرية، تذكر كيف كانت تلك الأماكن تذبل كلما كانت هي تكبر ومع ذبول أزهار القرية كانت الحياة في القرية تزداد شحوبا و جفافاً
ليليث كانت تشعر بعطش الأرض، . كانت تتذكر قصص جداتها اعن النهر كواهب للحياة، كصديق، كمصدر للإلهام. وكان يؤلمها أن ترى نساء الفرية يبتعدن عن مصدر قوتهن الروحية، مقتنعات بقصص منمقة.
كانت ترى كيف بدأت الألوان تبهت من الأزهار، وكيف أصبحت ضحكات نساء القرية أقل وأبهت.
في إحدى ليالي، اكتمال القمر راقبت ليليث قرصه من نافذة غرفته ارأت بدرٌ يسكب فضته على الوادي الصامت ،دون أن يجد أي انعكاس له في الأرض القاحلة
لا تعلم السبب لكنها شعرت بالأسى لذلك
شعرت ليليث بنداء أقوى من أي وقت مضى. لم يكن صوتاً مسموعاً، بل اهتزازاً عميقاً قادماً من باطن الأرض. ارتدت شال جدتها، الذي نُسج بخيوط مصبوغة بعصارة أعشاب تنبت فقط تحت الشجرة الوحيدة في الضفة القديمة ، وخرجت
.سارت بعيداً عن القرية، نحو التلال القاحلة التي قال المهندسون إنها "غير ذات جدوى".
لم تلحظ ليليث الظل النحيل الذي انسل خلفها من بين أزقة القرية.
وصلت إلى التلة القاحلة كانت الأرض هناك متشققة، يابسة. لكن ليليث، وهي تتبع الإحساس، توقفت عند صخرة كبيرة، تبدو عادية كغيرها. وضعت يدها عليها، وأغمضت عينيها، وبدأت تهمهم بالأغنية.
لم تكن كلمات كاملة، بل أنغام متقطعة، صدى لذاكرة بعيدة.
همست بما تذكرته من حكايات الجدة عن شرايين الأرض الخفية،
عن إرادة الماء التي لا تُقهر.
تحت يدها، شعرت بدفء خفيف يتسرب من الصخرة. ثم، بصوت خافت كالتنهيدة،
تسربت قطرة ماء من شق دقيق..
ثم قطرة أخرى. لم يكن فيضاناً، لم يكن مخيفا كما قيل لها ولم يكن معجزة صاخبة. كان مجرد إصرار هادئ.
ابتسمت ، جلست بجانب الصخرة، واستمرت في الهمهمة، تشجع تلك القطرات القليلة.
مع الوقت لاحظت إنعكاس البدر المكتمل على القطرات الصغيرة، لم يتفجر فيضان كما قيل ، لكن الرطوبة حول الصخرة قد اتسعت قليلاً. نبتت برعمة خضراء صغيرة، صغيرة جداً، في شق صخري قريب.عرفت أن النهر لم يمت. لقد وجد طريقه، ولو همساً. وعرفت أن دورها ليس استعادته، بل أن تكون الذاكرة الحية، الشاهدة على وجوده، الحارسة لبرعمه الصغير.
شهقة بصوت مكتوم سمعتها ليليث واستدارت مفزوعة نحوها
الظل الذي انسل خلفها من بين أزقة القرية. كانت إيانا "،سيدة من القرية ، بعينين واسعتين كبحيرتين صغيرتين تعكسان كل ما تقعان عليه. كان أهل القرية يعتبرونها "حالمة" أكثر من اللازم، مصابة بلوثة هكذا قيل عنها
دائماً ما تشرد بفكرها وتطرح أسئلة مجنونة لا جواب لها ..
"أيانا؟ ماذا تفعلين هنا في هذا الوقت المتأخر؟" سألت ليلث
اقتربت إيانا مترددة، وعيناه مثبتتان على القطرات اللامعة تحت ضوء القمر.
قالت "رأيتكِ... وسمعتُ الأغنية. إنها... إنها تشبه أغنية النهر التي حفظتها من جدتي و أغنيها دائما مع اختلاف بعض الكلمات ."
ابتسمت ليليث "جدتك كانت حكيمة، يا إيانا هذا هو همس النهر."
جلست إيانا القرفصاء بجانبها، تراقب الماء المتسرب بذهول. "هل... هل سيعود النهر الكبير؟"
تنهدت ليليث. "لا أعرف . لكن كل قطرة هي بداية. وكل بداية تحتاج إلى من يرعاها."
"أليس الماء هو من يعكس السماء؟"سألت إيانا قهزت ليليث رأسها موافقة
وقالت :
إن سألتي هذا السؤال في القرية سوف يكون الجواب "ولكنه يعكس أيضاً كل غيمة عابرة، كل خوفٍ طائر. ألا ترى النساء في انعكاسه وجوههن المتعبة، ومخاوفهن التي لا تُقال؟
سيكون الجواب سؤال آخر على هذه الشاكلة تماماً
وافقتها إيانا بإمائة من رأسها
سألتهم مرة وكان الجواب أن النهر، لنساء القرية، مرآةٌ كبيرةٌ جداً، وقد نضعن في النظر إليها." قالوا. "نظامنا يوفر الماء النقي والمضمون إلى عتبات بيوتكن. هذا يوفر وقتكن وجهدكن لأمور أهم .
لكن..
قالتها إينا بتردد فتابعت ليلث:
لكننا نشعر أننا هنا أفضل فلما إذا نطمس هذا الشعور الشعور يا أيانا لا يطمس لا يمكن قمعه وإقناعنا بأنه خرافة وغير موجود
تأملتها أينا للحظة قبل أن تقول
تفكرين مثلي لكن لماذا لم ينعتونك بالجنون في القرية لم يقولو بأنك مصابة بلوثة كما قيل عني
ضحكت ليليث وأجابت
ببساطة أنظري إلى قطرات الماء أنظري كيف تستمر بهدوء وروية
ناعمة واثقة تعرف طريقها
لا تهاجم ولا تصادم
ومع الوقت لن يتمكن أحد من إنكار وجودها أو من هزيمتها
أنا وأنت وربما هناك غيرنا من نساء القرية نحن بنات النهر.
كل واحدة منا وجدت طريقها إلى هذا المنبع الخفي بطريقتها الخاصة، عندما أصبح العطش في الخارج لا يُحتمل.،
إن الحياة، مثل النهر، ستجد دائماً طريقها. فإذا أرادت، ستفعل
.راقبت إينا القطرات تحت الصخرة بقعة الماء ينبت فوقها برعم صغير قالت
إذاً كل واحدة منا قطرة، وكل قطرة تحمل في طياتها قوة جريان النهر
ربتت ليليث على كتفها
أنت تفهمين الآن
عادت ليليث إلى القرية وقلبها أخف. لم تعد وحيدة تماماً في سرها. إيانا، أصبحت شريكتها في حراسة النهر. لم تتحدث هذه المرأة لم تسأل كثيرا،ولم تعد تحكي عن النهر ليس لأن ليليث طلبت منها ذلك، بل لأنها شعرت في قلبها أن حكمتها مسموعة أكثر وأن قوتها الهادئة أبلغ في الوصول إلى كل الإجابات.