23 Sep
23Sep



 تموجات زمنية 


في صباحٍ احتفالات اليوم الوطني الخامس والتسعين ، جلست ليان تصفح هاتفها . عدد لا بأس به من التعليقات على منصّات التواصل يقول العبارة نفسها تقريبًا:
 «كأننا احتفلنا العام الماضي باليوم الوطني 98!»
 توقّفت عند كل سطر، يتكرر بلا اختلاف. إحساسٌ جماعيّ يربك المنطق، 

وكأن ذاكرة الناس قد قفزت عامين إلى الأمام…أو ربما عادت عامين إلى الوراء

 ذكرتها تلك التعليقات ببحث الماجستير

والذي نعمل عليه منذ مدة في فيزياء موجات الجاذبية

 كان هذا موضوعه الأساسي تموجات الجاذبية في نسيج الزمكان

 والتي تنتج عن أحداث كونية ضخمة (اندماج ثقوب سوداء أو نجوم نيوترونية).

رصدها مرصد LIGO لأول مرة عام 2015.

هي لا تسبب “قفزات زمنية” محسوسة للبشر، لكنها دليل حقيقي على أن الزمكان يمكن أن يتموّج.مؤكِّدةً جزءًا من نبوءة أينشتاين في النسبية العامة بأن الكتلة تُشوِّه الزمان والمكان معًا، 

وأن هذه التموجات يمكن أن تُبطئ أو تُسرّع مرور الزمن تبعًا لشدتها

تنهدت أغلقت الهاتف  

وعادت إلى مذكّراتها البحثية. 

 تحليل بيانات حديثة من شبكة LIGO، حيث رُصدت اهتزازات غير متوقّعة في إحدى المحطات. قبل أسبوع من الآن..

 كان شكلها، على المخططات، يشبه تمامًا ما يحدثه حجر  يلقى في بركة ماء ،من دوائر مائية تتسع بلا نهاية، 

الفرق أنها تحدث في الفضاء. 

لكن مصدرها هذه المرّة بدا أقرب من أي موجة جاذبية تقليدية، وكأنها مرّت بمحاذاة كوكب الأرض نفسه.

تنهدت ليان وهي تحدّق في شاشة الكمبيوتر.

 كل هذه التعليقات المتشابهة، وكل ما تعرفه  هي عن موجات الجاذبية، أخذ يتشابك في ذهنها كسلسلةٍ غير منتهية من الدوائر المتداخلة. 

كان الوقت ما يزال صباحاً، لكن المدينة خارج نافذتها تضجّ بأصوات التحضير لليلة الاحتفال...

إهتز هاتفها بإشعار على الواتس أب: دعوة إلى اجتماع طارئ لهيئة العلماء المشرفين على الرصد. تردّدت لحظة، ثم التقطت حقيبتها واتجهت إلى مركز الأبحاث.

قاعة الاجتماع

عند دخولها القاعة وجدت وجوهًا تعرفها: أساتذة الفيزياء الفلكية، ومرشرفها الأكاديمي في دراستة الماجستير، وفريق من علماء  دُعي على عجل. جلست بصمت، وبدأت الشاشات تعرض بيانات مرصدين مختلفين، كلاهما يؤكّد مرور موجة جاذبية غير مألوفة قبل أيام.قال الدكتور كريم وهو يشير إلى المخطط:
 هذه ليست مجرد اهتزازات عابرة. سلوكها يوحي باضطراب في البنية المترابطة للزمان والمكان. لاحظوا الانحراف الطفيف في تزامن الساعات حول العالم.

همست ليان لنفسها: «كرونوس…» ثم رفعت يدها.
 «في بحثي أطلقت عليها  أسم موجات كرونوس. لأفرق بينها وبين موجات الجاذبية الأخرى الملاحظة سابقا في 2015»توقفت فأشار لها مشرفها أن تتوضح 

 تابعت :
 أخترت هذه الأسم لبحثي ليسهل تسجيله عالميا وهو مقتبس من الأسطورة اليونانية، كرونوس إله الزمن. عندن الأغريق

وما نرصده هنا أقرب إلى تموّج في إدراكنا للوقت ذاته.

 الناس يشعرون وكأنهم قفزوا عامين إلى الوراء، بينما السجلات الزمنية تقول غير ذلك. 

أو كما أعتقد ربما هذه الموجة لم تكتفِ بتشويه الوقت، بل أثّرت في وعينا الجمعي. فقط 

تبادل العلماء النظرات. أحدهم قال: 

هناك تقارير عن ذكريات متناقضة، خاصة في مناطق الرصد. كأن الناس يعيشون مستقبلاً لم يحدث.
 أضاف آخر: ربما غيّرت الموجة سرعة مرور الزمن محليًا ثم عادت، تاركةً أثرًا في الذاكرة البشرية.

أثر على الوعي الجمعي

 

خرائط النجوم تومض على جدران  قاعة الاجتماعات الزجاجية ، وخطوط البيانات تتقاطع مثل نَبَضات كونية.

 كانت الفرضية الأكثر رواجا في القاعة تقول إن الموجة انطلقت من نقطةٍ مجهولة فوق مجموعتنا الشمسية، ثم انعكست على حافةٍ منحنية في الزمكان، فعادت لتلامس الأرض مرتين.

أدار أحد العلماء شاشة تحاكي ذلك الانعكاس، فتوهّجت القبة بخطوط خضراء 

.قال بهدوء: رغم أننا لم نفقد يومًا واحدًا في السجلات.

و الساعات لم تتوقف رغم تباطوئها لكن بحسابات بسيطة نستطيع أن نستنج أن ضربة ثانية من هذه الموجات قد تخلق اضطرابًا لحظيًّا . قد يكون كافيًا لإرباك الإحساس الجمعي بمرور السنين.

ابتسمت ليان وأشارت إلى ملاحظاتها التي كانت على الشاشة أمام الجميع : «ومن قال إن الوعي الجمعي يقاس بالساعات؟ 

هو موجة تشعر بها الحواس والإدراك لا العقارب.

«ألسنا نعيش أصلاً على ذاكرة؟»

 تساءل مشرفها. 

الوعي الجماعي شبكة من الحكايات المتداخلة. لو زُحزِحت العقدة المركزية لحظةً، فإن تاريخنا نفسه يتلوى.

صميم نظرية إنشتاين هي مرونة الزمان،

أجابت ليان بينما فتحت على الشاشة نصا لنظرية إنشتاين وتابعت:

 ولكننا نتصرف وكأنه مستقيم كمسطرة. ولعلّ الموجة ذكّرتنا بأن المستقيم مجرّد وهم إحصائي.

 قاطعها أحد العلماء الذي كان يجلس في آخر الغرفة : هل تريدين القول  أننا عدنا  عامين إلى الوراء زمنياً، لكن وعينا ما زال يتذكر المستقبل وكأنه حدث بالفعل؟.

 ليان دوّنت الملاحظات بينما أجابت:

 أنا أضع فرضية فقط ولا أجزم بها : موجات كرونوس مرت فوق الأرض، فبعثرت إدراك الذاكرة، وأبقت في العقول شذرات من زمن آخر.

ولنقل كما أثبت إنشتاين في نظريته:

  • الزمن يتباطأ أو يتسارع تبعًا لسرعة المراقب لنقل أنه الوعي الجمعي في دراستنا هذه 

  • وأثبت أيضا أن الساعات في مناطق الجاذبية القوية أو عند السرعات العالية تدقّ أبطأ من الساعات في مناطق الجاذبية الضعيفة أو السرعات المنخفضة.

وهذه النتائج تعني أن الزمن مرن وقابل للتشوه 

ساد الصمت للحظة، ثم انطلقت في القاعة تصفيقات متقطعة تحولت سريعًا إلى تصفيق حار. 

حياها مشرفها :
 هذا النوع من الأسئلة بالضبط  وهو الذي يحرك أبحاث الفيزياء والفلسفة معًا.

أومأ آخر: «استمري، لديك مستقبل واعد في هذا المجال؛ فرضيتك قد تفتح بابًا دراسات أعمق 

ارتسمت على وجهها ابتسامة سعيدة، لكنها شعرت في أعماقها بأن ما بدأته الليلة لن ينتهي عند حدود هذا الاجتماع، بل سيمتد إلى أسئلة أكبر مما تخيّلت.

أنتهى الاجتماع بعد منتصف الليل حين خرجت

الشوارع التي ما زالت تضج برائحة الاحتفال. الأعلام الخضراء ترفرف، وبقايا الزينة تتلألأ على الأرصفة.

تنهدت وأخذت نفسا عميقا..

 فتحت دفتر مذكراتها وكتبت:
 الوطن هو الثابت الوحيد. 

سواء كنّا في 95 أو 98 أو 2121، كأن الانتماء يعادل «كتلة» تشدّ الذاكرة  بحبل لا ينقطع. قد يلتفّ الزمن من حولنا، لكننا نحن من نقرر أي ذكرى تبقى حقيقية.

أغلقت التقرير، رفعت رأسها إلى السماء . سحابة دخانية تشكّلت ببطء، ومع الريح اتخذت شكلاً رقمياً واضحًا… 101.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.