25 May
25May



لم يكن العم جمعة ، بوّاب العمارة ذات الأربعة طوابق، يتوقّع أن يتغيّر سير الأيام حين حمل دلو الماء والمكنسة ونزل لتنظيف مخزن الطابق الأرضي.

 كانت الغرفة عابقةً برائحة خشبٍ رطب وغبارٍ متراكم على صناديق ممهورة بأختام شركاتٍ اندثرت.

 وبين كومة مفاتيح صدئة لمح شيئاً يلمع، وضع دلو الماء على الأرض والتقطها.

 ساعةُ جيبٍ فضيّة، حُفرعلى غطائها الداخلي حرفا « ز. م.» وتاريخٌ مطموس. 

ضغط الزرّ، فانفتحت تشير عقاربها إلى السادسة والدقيقة الثالثة والأربعين، مع صوت تكتكةٍ لا تليق بجسمٍ ظلّ مهجوراً لعقود.

نفض الغبار عنها متعجبا

-الحاجات القديمة الأصلية سبحان الله يا ترا لها قد أيه مرميا هنا ولسا شغالة زي البومب 

رفعَ الساعة إلى مستوى عينيه يتأمّل الزخرفةا المنقوشة عليه اتحرّك بضع خطوات حتى تعثّر في دلوٍ الماء ،

ارتطم الدلو بالأرض وانسكب الماء متّجهاً مباشرةً إلى كومة ملفاتٍ غير مفتوحة منذ سنين. 

 فيما كاد يسقط العمُّ جمعة هاتفاً:

  – يا ساتر يا رب!  

أصبع إبهامه اشتبكت بعقرب التوقيت الصغير فحرّكه إلى الوراء مقدار درجةٍ أو درجتين. للحظةٍ سمع صوت هواءٍ خفيف،

 كأنَّ الغرفة تنفّست فجأة… 

ثم شاهد أمام عينيه الماء الذي كان قد لامس الأوراق ارتدَّ إلى داخل الدلو، والدلو نفسه انزلق إلى الوراء ليعود و يستقرّ في موضعه الأصلي قبل السقوط 

تماما كما لو أن شريطاً سينمائيّاً انقلب.

ظلّ العم جمعة واقفاً، فاهه نصف مفتوح، يرمش مرّتين. 

مدّ سبابته يتحسّس الأرض… جافّة تماماً.  

– هو أنا نمت وأنا واقف ولا إيه؟  

تحسّس نبضه، ضرب خدّه بخفّة، شعر بذلك إذا هو لا يحلم..

ثم تطلّع إلى الساعة. التكتكة ما زالت منتظمة، لكن بدا له أن عقرب الدقائق استقرّ عند الثانية والأربعين بدل الثالثة والأربعين. 

 وضع الدلو على الرف وتقدّم إلى ركن المخزن حيث مصباحٌ يتدلّى من السقف بحبلٍ قصير. أمسك الحبل وجذبه قليلا لينير المكان، فانقطع السلك وسقط المصباح متهشّمًا على الأرض، تناثرت الشظايا في كل ناحية. 

في هذه المرة تذكّر ما جرى للدلو. بيدٍ ثابتة سحب التاج الصغير للساعة، وأدار العقرب دقيقةً إلى الوراء.

الشظايا طارت عكسيًّا وتجمّعت في قبة الزجاج، والحبل عاد ينتظر السحب، ثم عاد المصباح إلى مكانه في السقف قطعةً واحدة، 

شهق العم جمعة:  

– يا نهار أبيض! الساعة دي فيها جِنّ؟ ولا إيه الحكاية؟ .

 راحت الأفكار تدور في رأسه:

 لو أعاد أي شيء قبل دقيقة واحدة فقط، فإنّ ما وقع يُمحى من الوجود! لكن هل الأمر يخصّ المكان كله أم جزءاً منه فقط؟ 

 نهض مهرولًا إلى ممرّ الطابق الأرضي. هناك تقع شقّة “الأستاذ مازن” الموظف العصبي الذي يكره أي خلل في نظامه الصباحي. طرق الباب فلم يردّ أحد؛ علم أنّ مازن غادر مبكراً كعادته.

 عند عتبته رمى جمرةً صغيرة من الورق المشتعل فاشتعلت كما خطّط، ثم بسرعة أدار عقرب الساعة دقيقةً إلى الخلف.

 رأى لهب الورقة يبتلع نفسه ويتراجع حتى عادت الورقة كما كانت، لكن اللافت أنّ التغيير اقتصر على الجزء المرئي فقط أما رائحة الدخان لم تختفِ من الممرّ.

في تلك اللحظة سمع نباح كلب الجار في الطابق الأول يعلو ثم يخفت بنبرةٍ غريبة، كأن الصوت نفسه يُعاد شريطه للخلف. أدرك أنّ تأثير الساعة قد يظلّ يسرّب ارتداداته إلى مواضع أخرى إن هو أساء استخدامها.  

أعاد الساعة إلى جيبه وقد تسرّبت إلى وجهه ابتسامة متوتّرة:  – حاجات كتير ممكن تتصلّح بالدقيقة… بس يا ترى الثمن إيه؟  

بين دهشته وخوفه، قرّر أن يختبر حدود اللعبة بشيءٍ لا يضرّ أحدًا. فتح دفتر صيانة العمارة على مكتب الحراسة، ورسم جدولا بثلاث أعمدة :  “الدقائق المُستردَّة – الشقّة – النتيجة”.  

كتب أول سطر: 

الدقيقةالأولى – شقّة 0 (المخزن) – نجاة ملفّات قديمة + مصباح سليـم  

ثم وضع القلم، أغلق الدفتر بحذر، ورفع عينيه إلى السقف تنهد وقد أدرك أنّ الأيام القادمة ستصير امتحاناً دقيقاً بين رغبته في إصلاح العالم دقيقةً بدقيقة…

 وبين احتمال أن ينكسر هذا العالم إذا لمس عقرب الدقائق أكثر مما ينبغي.

***

(1)

الدقيقة الثانية

 بعد أقلّ من ساعة، نزلت الدكتورة سارة من الطابق الثالث وفي يدها كوب قهوة يتصاعد منه بخاراً ساخنا . تعثّرت بعجلةٍ في أسلاك الصيانة، فانقلب الكوب في الهواء. لمح العم جمعة المشهد كصيادٍ يلمح سمكةً تشقّ سطح الماء،

 فضبط – من دون تفكير – عقرب الدقائق إلى الخلف دورةً واحدة. شهق الهواء حوله ثم سكنت الحركة. 

في الثانية التالية شاهد القهوة تعود إلى الكوب كشريطٍ سنمائي معكوس، وارتدّ الكأس إلى يد سارة دون أن تُبلَّل قطرة.

 توقّفت الدكتورة وكأن كل شيء تجمد حولها في حين أقترب العم جمعة وانحنى يلتقط كابل الكهرباء الذي كان سبب تعثرها 

أغمضت عينيها ثم فتحتهما، فالمنظر ثابت كما يجب أن يكون: هزّت رأسها لتطرد الوهم، تبسّمت للعمّ جمعة ابتسامةً عابرة تشكره على التقاط كابل الكهرباء، ثم واصلت طريقها إلى الخارج. 

عند خروجها تمتمت لنفسها: 

«لازم أنام كويس بقى».

وقف العمّ جمعة يتابعها حتى اختفت، ثم أطلق زفيراً عميقاً وفتح دفتـره وكتب :

الدقيقة الثانية – شقّة 3 – «قهوة» (نجح الإصلاح – لم يُكتَشف)

أعاد الساعة إلى جيبه، لكن في صدره امتزج شعورُ النصر بارتعاشة خوف؛ فالدقيقة التي «اختفت» تركت وراءها ظلّاً حسّياً لدى الدكتورة، ظلّاً لا يراه غيرها ولا يقدر هو على محوه.

 ورائحة القهوة ما تزال تفوح من الأرض.

 لامس بإبهامه حافة الساعة الملساء وقال همساً:

– يبقى تأثيرها مش كامل… زَيّ ريحة العطر بعد ما يروح صاحبها


***

(2)

الدقيقة الثالثة

بعد حوالي ساعة عندما كان يكمل جولة الصيانة.

 عند مدخل العمارة لمح  كرتون متوسط الحجم كُتب عليه بخطّ أنيق اسم وعنوان السيدة وداد الأرملة التي تسكن الطابق الرابع.

حمله وتوجه إلى المصعد  بينما يخبر نفسه أن ما يحدث مجرّد مصادفة، برغم أنّه أكيد أنّ لا أحد مر بمدخل العمارة ووضعه. 

ما أن وصل للطابق الرابع وخرج من المصعد حتى لمحَ خيطَ دخانٍ أسود رفيعاً يتسرّب من أسفل باب الشقّة (٤) ، حيث تسكن السيّدة وَداد الأرملة . 

هرع إلى الباب ركضاً، يقرع الباب بخشونةٍ امتزجت بالهَلع:– يا مدام وداد! الدخان دا من عندك!

تأخّر الصوت من الداخل،

دون تفكير  مدّ يده إلى جيبه، أخرج الساعة، أدار عقرب الثواني دورةً كاملة إلى الخلف.

 سمع شفطة هواءٍ مميّزة خيوط الدخان تعود أدراجها إلى أسفل الباب …

 ثم ساد صمتٌ ثقيل.دقّ الباب بلطف هذه المرة ، ففتحت له السيّدة وداد ويبدو عليها أثار النوم

.– عم جمعة يا أهلا كويس إنك صحتني  شكلّي نسيت النار هادية عاللبن، الحمد لله لِحِقْته قبل يفور.
– الحمد لله يا مدام… المهم إنك طفيتِها بدري.

 وأشارإلى كرتون الذي كتب عليه أسمها:

 وصلت الكرتونة دي باسمك من شويا أفسحت له  الطريق ليدخل  إلى المطبخ  كلّ شيء مرتب إلى حد الغرابة؛

 لكن رائحة الحريق الحادة ظلّت في الجوّ بوضح .

وضع الكرتون عتلى الطاولة في منتصف المطبخ وهم بالخروج قبل أن تقع عينه على الجهة الأخرى من الكرتون والتي كتب عليها :

«إلى زوجتي العزيزة – تاريخ الإرسال: 18 / 3 / 2025». أي قبل يومين من يومهما هذا.تغيرت ملامح وجهه، عيناها امتزج فيهما خوفٌ وهلع لا تفسير لهما.

 التفتت إلى وداد كأنه يتأكد أنها لم تنتبه للمكتوب ليس بعد..

فكر أن يخرج الساعة ويغير شيء لكنه تراجع واستأذن بهدوء

خرج وأغلق الباب بلطف. نزل الدَرَج ببطء، ويده تقبض على الساعة حتى كادت تذوب في كفه. وفي ذهنه دوّى سؤال : 

«هل الدقيقة التي أرجَعَها أنقذت حريقاً صغيراً فقط، أم فتحت نافذةً زمنيّةً لرسالة كان يجب ألّا تصل أبداً؟»

عند مكتبه الخشبي، فتح الدفتر وأضاف سطراً جديداً:الدقيقة الثالثة – شقّة 4 – «حريق» (نجح الإصلاح)
ملاحظة: ظهور رسالة من شخص متوفي . أثرٌ جانبي.

ثم رسم خطّاً أسفل الصفحة وكتب بخط عريض:

«خطر.. صدى الدقائق يزداد قوّة. الأشياء التي تُنقَذ تترك أبواباً مواربة».

***

 (4)

 الدقيقة الرابعة

عند الغروب وعندما كان العم جمعة يجلس بهدوء عند البوابة ويرتشف كوب شاي على مهل حين دوّى صوتُ ارتطامٍ حادّ تسرَّب من الطابق الأوّل،

 تبعته شتيمةٌ يعرف صاحبها، الأستاذ مازن، الموظّف الحكوميّ الصارم الذي يعود كلّ مساء حاملاً حقيبة أوراقٍ متراصة كصفوف الجنود.

صعد جمعة ثلاث درجاتٍ في قفزةٍ واحدة، فوجد الباب نصف مفتوح ورأى مازن منكفئاً على ركبتيه، يحاول لملمة قطع زجاج إطارٍ كبير تحطّم لتوّه.

 كانت الشظايا تغطّي أرضية المدخل، وفوقها شهادةُ تقديرٍ قديمة صار شعار الدولة فيها مشوَّه الحبر.مازن، بحدّةٍ لا تخلو من الذعر:
– إوعي يا عمّ جمعة! الإزاز في كل حتّة… الشهادة دي ما تتعوّضش.

تلفّت جمعة حوله؛ على الرفّ المجاور إناءُ نبتةٍ صغيرة يترنَّح، وإذا سقط سيزيد الطين بلّة. أخرج الساعة في حركةٍ خاطفة، وأدار عقرب الثواني دورتين كاملتين إلى الخلف.صوتٌ خافتٌ  كريح هادئة، ثم عاد كل شيء إلى الدقيقة السابقة.

 الإطار معلَّق بإحكام على الحائط، والإناء مستقرّ. 

الوحيد الذي بدا مرتبكاً هو مازن؛ انتفض واقفاً وأخذ ينظر إلى يديه الفارغتين وإلى الأرض النقيّة.

 ـ واللهِ العظيم كنت شايف الإزاز مكسور!

تحسّس حذاءه، كأنه يبحث عن دليل دمٍ أو شظايا. مال رأسه إلى الجانب، ثم هزّه لينفض الوهم.

 يمكن ضغط الشغل بوّظ دماغي… 

حسّيت بحاجة زي الديجافو كده.

ابتسم جمعة:

– الإجهاد بيعمل أكتر من كده يا أستاذ مازن. أهو الشهادة زيّ الفل.

لكنّه لم يكد يُنهِي عبارته حتى لاحظ تفصيلةً غريبة،

 السطر الأخير في الشهادة تغيّر.

 بدلاً من «تقديراً لجهوده في قسم الإيرادات – 2014» صار يقرأ «… – 2013». سنةٌ كاملة اختُزلَت، وكأنّ الدقيقة المرتجَعة سحبت معها إثني عشر شهراً من سجلّ مازن المهني على الورق، بينما ذاكرتاهما ما تزالان تتذكّران التاريخ القديم!

حاول إخفاء دهشته، لكن مازن سبقه:

– غريبة… كنت دايمًا فاكرها 2014.

ارتجف قلب جمعة، تذكّر ملاحظته الأخيرة عن «الأبواب المواربة». الزمن لا يكتفي بتصحيح حادثٍ صغير، بل ربما يُعيد كتابة التفاصيل المطبوعة أيضاً.

عند المدخل، لاحت للبوّاب ورقة مستندٍ  من حقيبة مازن. عنوانها : «ملاحظات إدارية لسنة 2026» مع أنه متأكد أنّ العام الجاري هو 2025. بلع ريقه وحاول ألا يطيل النظر.

مازن، وقد استعاد هدوءه:

– متشكر يا عم جمعة. واضح إن عقلي محتاج إجازة.

– إجازة يومين تعمل فرق كبير، صدّقني.

أغلق مازن الباب شاكرًا. نزل جمعة الدرج بخطواتٍ بطيئة، يشعر بوزن الساعة يتضاعف في جيبه. 

جلس إلى مكتبه وفتح الدفتر:

الدقيقة الرابعة – شقّة 1 – «الإطار المكسور» (نجح الإصلاح)  أثر جانبي: تغيّر التاريخ في الشهادة الرسميّة من 2014 إلى 2013. ظهور مستند مستقبلِي بتاريخ 2026.  

توقّف قليلًا ثم كتب أسفل الصفحة:

«الساعة لا تُعيد الأشياء وحسب؛ إنها تُعدِّل السجلّات أيضاً. كلُّ دقيقةٍ تَرجع تسرق قطعة من الماضي أو تُقحم شظيّةً في المستقبل. الخطر يزداد هندسياً.»

قرّب الدفتر من صدره وأطبق عليه، ثم قبض على الساعة بيدٍه بقوة ، وهمس لنفسه:

– لو فضلت أعدّل، هأقلب العمارة كتاب تاريخ مشطوب الصفحات.

لكن تكتكة أجابته، كأنها تقول: «الوقتُ كتابٌ مفتوح… لمن يجرؤ على المحو».


***

(6)

الدقيقة الأخيرة

الساعة السابعة مساء  خطت الدكتورة  سارة بخطواتٍ متعجّلة إلى الداخل. 

وجهها مُرهَق، وفي يدها ملفّ سميك من أوراق المرضى. نهض العمّ جمعة احتراماً.

سارة:
– مساء الخير يا عمّ جمعة. في دقيقتين فاضي؟

جمعة:
– تحت أمرك يا دكتورة. اتفضّلي .

سارة:
– حصلت معايا حاجات غريبة في العيادة. مش عارفة أفسّرها.
– خير إن شاء الله؟
– عندي مريض سكّري بشوفه كل أربعاء. فتحت ملفّه الصبح لقيت التاريخ بيقول “الأربعاء 12 أبريل 2026”، بينما إحنا لسه في 2025! وكمان روشتة العلاج مكتوبة بخطّي ومختومة، لكن أنا متأكّدة ما كتبتهاش أبداً.

تقلب الورقة فتظهر روشتة بتاريخ العام الماضي.العم جمعة بدأ يقلق

– طيب وأنا أقدر أساعدك في إيه

سارة (تتنهد):
–أنا بأسألك لأن البداية كانت اليوم الصبح.

العم جمعة بتردد:

اليوم الصبح؟..

تهز رأسها بتوتر ثم تتابع:

–  القهوة اللي كانت في إيدي… فاكرها؟

  العمّ جمعة يتوتر ويشيح بنظره:

  – أيوه، مالها؟  

سارة:

– لحظة شفتها وهي بتطير من الكوب وتغرق البلوزة، وبعدها بثانية لقيت كل حاجة رجعت مكانها كأن اللقطة اتعكست.

 افتكرتها هلوسة، لكن لما شفت الـروشتة المؤرَّخة بالمستقبل، ربطت الأحداث ببعض…  

( دكتورة… ؟! أنا برضه عندي ورق بتاريخ المفروض أنه لسه ! )

 هتف بذلك من عند بهو المصعد الأستاذ مازن حاملاً حقيبته الجلدية.

 وهو يلوح بالورقة– بصّ يا عم جمعة… ده خطاب نقل بإمضائي بتاريخ 2026. وأنا ما طلبتش نقل أصلاً! 

وكمان شهادة التقديرعندي في البيت اتغيّر فيها التاريخ، ناقص سنة كاملة.

أخذت سارة تقلّب مستند مازن، ثم رفعت عينيها إلى جمعة:

  – يبقى مش أنا الوَحيدة.

العمّ جمعة مسح عرَق جبينه: 

 – ممكن تبقى أجهزة الكمبيوتر في الشغل عندك وعندها ، ساعات السيرفر يخلّي التاريخ يسبق أو يتأخر.

هزت سارة رأسها:

  – أنا عندي بلوزة كانت مفروض تبقى مبلولة ومع ذلك ناشفة… دي مش سوفت وير. 

 يتابع مازن :

– وإطار الشهادة اللي اتكسر وبعدين لقيته سليم… ده كمان مِن السيرفر؟  

شعر العم جمعة وكأن تكتكت الساعة تعلوفي جيبه بينما ومض المصباح فوقهم ومضتين متتاليتين ثم استقرّ. 

بلع جمعة ريقه؛

على ما يبدو أنّ الارتدادات ما زالت تتسرّب.

 مضى صمتٌ قصير. 

في حين طأطئ جمعة رأسه وحكُّ صدره حيث تقبع الساعة.قبل أن يتثأب ويقول:

وأنا إيه عرفني

  تصر سارة

 – يا عم جمعة، أنت أكتر واحد شايف تفاصيل العمارة. لو شفت  حاجة غريبة لازم تقول.

 – والله ما اعرف يا بنتي جربي تسألي باقي الجيران 

لم يترك لهما فرصة للمزيد من الحديث.

ألتقط مفاتيحه وأشار برأسه علامة الانصراف.

توجها إلى المصعد وهما يناقشان الأمر بينما جلس العم جمعة على مكتب الحراسة.

قال لنفسه بصوت منخفض يكاد لا يُسمَع:

 – لما يتهدّد قَدر الناس، لازم يتقفل الباب اللي اتفتح… حتى لو اتأخرنا دقيقة. 

 *** 

(7)

لا دقائق بعد الآن

بعد منتصف الليل فتح العمّ جمعة باب مخزن الطابق الأرضي مرة أخرى على رائحة الخشب الرطب. 

أخرج الساعة من جيبه، طالع عقاربها المرتعشة، تذكّر، رسالة وداد المؤرَّخة بتارخ غريب والموقعة من زوجها المتوفي، شهادة مازن الناقصة، ووجه سارة حين كادت تفقد عقلها .

وضع الساعة على أرضية الأسمنت، و التقط  طفاية الحريق .

– «الحاجة اللي ما تعرفش آخرها، خليك بعيد عنها»

خلاص… دي الدقيقة الأخيرة. 

 و هويبطفاية الحريق.

  طَقّ! 

 أنبعج الغطاء ، تتناثر التروس كشررٍ ذهبيّ يخبو.

 غمر المخزن صمتٌ ثقيل؛

 لا تكتكة بعد الآن.

جمع الشظايا في كيس قماشي وكتب عليه:

 «ممنوع اللمس – زمن تالف».

 أعادها إلى الصندوق الخشبي، و أقفله،

ــــ  حين عاد إلى مكتبه عند البوابة شعر وكأن الهواء حوله أصبح أكثر نقاءً وكأنَّ العمارة أخيراً استقَرّت على زمنٍ واحد…

 زمنٍ يكفي أن يُعاش مرّةً واحدة وبلا إعادات. 

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.