1 ـ
المدينة الرماديّة
يحكي أنه في مكان ما ومنذ ثلاثين عامًا صدر مرسوم الوقاية من الخيال.
استيقظت البلاد يومذاك على سطوح مطليّة بالرمادي،
لوحات إعلانيّة موحّدة، وكتبٍ أُفرِغت من القصائد والقصص. صار شعار الوزارة: «الخيال فجوةُ نظام»
. في المدارس يحفظ التلاميذ الجداول والأوامر،
حياة راشدة
حملة واسعة استهدفت حذف كل شكل من أشكال القصص والروايات من المكتبات،
واعتُبرت القصص خيال زائف بلا هدف، لا جدوى منه،
يشتّت الأذهان ويبعدها عن الحقيقة.
أُعلن أن كتابة القصص والروايات محرمة بموجب القانون،
إنها تفتح أبوابًا للخيال المُفتعل، وهذا يجر لشكل من أشكل الكذب وهو بالتالي يعلم الصغار قول أشياء لم تحدث
الروائيون خصوصا صدر مرسوم بتجريمهم
فُرضت عقوبات صارمة على كل من يُضبط وهو يكتب قصة أو يروّج لرواية،
إذ صارت الكلمات تتحدى القانون، والخيال يزعم أنه يقدر أن يغيّر الواقع.
في مدارس الحي حُذفت كتب الأدب تمامًا، ولم يتبق سوى الكنب المملوءة بوقائع واقعية،
تقارير وأوامر وتعليمات ذات فائدة مباشرة لحياة الناس
و الأهم أنها لا تحتمل التأويل
فالتأويل في حد ذاته جريمة أيضا يعاقب عليها القانون
في هذا الحيّ، يسكن سامر، صبيّ في الثانية عشرة، يحب تركيب الأشياء الصغيرة: ساعة مكسورة، حنفيّة تقطر، لعبة فقدت عجلة.
مهرة تعلمها من أبوه ميكانيكيّ، يملك ورشة تصليح صغيرة أسفل المنزل ويعمل فيها طوال النهار
بينما تعمل أمّه موظّفة في دائرة الضبط اللوني التي تتولّى التأكّد أنّ البياض باقٍ على نصوعه، وأن الأسود لا يبهت ،وحتى الرمادي يبقى في المنتصف متوازنا بينهما دون أن يمل قدر أنمل .
2
ـ بذرة الحكاية
ذات ليلة حمل الحلم سامر من سريره الرماديّ إلى عرض محيطٍ أزرق لم يره قط. رأى نفسه واقفا على ظهر قارب صغير يتلألأ خشبه تحت ضوء القمر ويهتز مع كل موجة .
كانت تلك صورةً محفوظةً في ذاكرته من جدّه الذي رحل قبل عامين، حيث اعتاد أن يروي له عن رحلاته مع البحر و الصيد.
كان الجدّ يصفُ كيف يقف وحيداً على قاربٍ خشبيّ يتحدّى الموجَ في الأيام العاصفة؛ يروي اهتزازَ الصاري، وصوتَ المياه وهي تتحوَّل من الصراخ إلى الصمت،
ورائحةَ الملح المختلطة بدم السمكة حين يشقّها سكينه الصدئ. لم يحفظ سامر كلَّ الكلمات، لكنه حفظ الإحساس.
صلابةَ الجدّ، عنادَ الموج، ولذعةَ الملح على الشفتين.
استفاق قبل الفجر، وهو لا يزال يشعر وكأنه على القارب. جلس على حافة السرير، يراوده شعور غريب
هذا الحلم...
.روأيا حكايات جده تستحق أن لا تنسى أن تصل لكل من يحب سماعاه لكن هل يكفي أن يحكيها هو
أن يواصل سردها على الناس كما كان يفعل جده أم إنّ الحلم بابٌ إلى حكايةٍ تستحقّ أن تُكتَب
كي لا تذوب في النسيان مثل أثرِ قدمٍ على الشاطئ.
أحسَّ أنّ جدَّه ترك له وديعةً خيرة: أن يُعيد البحر إلى الحياة بالكلمات، ويخلّد تلك اللحظة التي يأختلطت فيها المغامرة مع الأمواج.
وقعت عينه على كتاب المدرسة يقبع بهدوء فوق الطاولة المجاورة تتوسطه بخط عريض عبارة
فجوة النظم
ونظر إلى قلم الرصاص شبه الباهت. خطر له أنّ المدينة التي تُجرّم القصص ستبتلع صوتَ جَدّه إ
ن لم يُسارع إلى توثيقه. شعر بخوفٍ حادّ
لكن خوفه لم يكن من العقاب بل من ضياع الحكاية.
شعر أنه إذا خَمد هذا المشهد في ذاكرته، فسيموت جدّه مرّةً ثانية.
أمسك القلم ويده ترتجف ماذا سوف يحدث لوكتب القصة
ورسم الموج و سطّر صلابة الرجل العجوز وهو يشدّ خيط الصيد كأنّه يشدّ عصب الحياة نفسِه
3 ـ
الورقة المهترأة
جالسا بين كومة الأدوات القديمة في ورشة والده …و ما إن انتهى سامر من تسطير السطر الأخير حتى شعر بخفّةٍ تتسلّل إلى صدره؛.
مدّ الورقة أمامه، فبدت المساحة البيضاء التي طلاها بطلاء الأساس قد امتلأت الآن بحياةٍ من بالحبر. لمس حروفه بأطراف أصابعه وقال:
«هكذا لن يختفي صوتك يا جدّي».
لكن الفرَح سرعان ما تراجع أمام السؤالٍ : أين سيُخفي هذه الصفحة قبل أن تبدأ دوريات “دائرة الضبط اللوني” جولة الفجر؟
سوف يمر المفتشون على كل البيوت وباستخدام أجهزة الأستشعار سيكتشفون وجد قصة مكتوبة هنا
أسند ظهره إلى صندوق خشبي وقد بدأ الضيق يعنريه
قبل أن ينزلق من خلف الصندوق ورقة بحجم راحة اليد
ورقة صفراء ناصعة على غير المعتادرغم الغبار الذي يعتريها والتشققات
تعلق نظره بها كمن يرى هذا الألأون لأاول مرة
على حافتها نقش باهت
( كتاب الطي البهيج - طبعة ١٩٧٩)
قلب الورق
عليها رسم توضيحي بسيط
كيف يصنع طائرا من الورق
الشرح غير مكتمل لكنه أدرك معظم الخطوات تقريباً..
و في ضوء فجرٍ شاحبٍ ألصق أوراق قصته ببعضها حتى كونت ورقة واحدة كبيرة وبدأ يطوي الورقة: جناحان، منقار، ذيل. كل طيّة كانت تفتح شقًّا خفيًّا في جدار المنع.
4
ـ الإقلاع
مع بداية بزوغ الشمس تسلل سامر مرة أخرى لكن هذه المرة إلى سطح المبنى .
رقع الطائر من جناحه ولمس منقاره مترددا قبل أن تهب نسمة هادئة شجعته على أن يحرر الطائر، فهتف:
إنطلق
أرتفع الطائر في الهواء ثم التقطته دوامة أخرى صعدت به في خط مائل حاد تجاوز أول حاجز ألكتروني .
5
ـ الإنذار
التقطت مستشعرات المراقبة جسماً «ملوَّنًا مجهول الهوية».
أعلن مكبّر الصوت:
«الأمر 337: إسقاط الهدف فورًا».
انطلقت طائرة بدون طيّار سوداء، تطلق نحو الطائر شعاع أحمر
بينما تابع سامر الطائر وهو يراوغ كسهمٍ غضّ.
شيء في صدره قال: «تابع ، أنت لن تسقط الآن،». .
6 ـ
المطاردة
في الأسفل وعلى بعد مبنى واحد من بيت سامر وقف عشرون تلميذ بزيهم الرمادي ينتظرون حافلة المدرسة
حين دوى هدير الطائرة المعدنية ثم اخترق السماء طائر ورقي يطارده ليزر أحمر
مشهد غريب إخترق ملل الصباح الرتيب
وقلبه رأس على عقب
قفز أطول الطلاب وهو يهتف
حلق ..حلق ..
ضحك أخر وأخرج من جيبه ورقة واجب حسابي طواها على عجل كيفما اتفق
لوح بها في الهواء وأطلقها
أنفجر أصدقائه بالتصفيق حين ارتفعت الورقة لأعلى
وخلال ثواني بدأت الحقائب الرمادية للأطفال تفرغ أسرارها ..
قصاصات جداول حصص ،إشعارات غياب ، أوراق أمتحانات كلها تحولت لطيور ورقية
خمس دقائق لا أكثر، وصار موقف الحافلات الرماديّ ساحة إقلاعٍ لأسطولٍ مرتجل
بعضها يترنّح وبعضها يعلو في ثقة.
7
ـ شللٌ تكنولوجيّ
على السطح راقب سامر ما أحدثه سرب الطيور الورقية
كلُّ طائرٍ جديدٍ كان يُربك خوارزمية التعرّف في الطائرة المسيّرة، التي حارت أيَّ هدفٍ هو الأصلي.
صدرَ تحذيرٌ في غرفة التحكّم:
«تشويش بصري يتجاوز العتبة ٢.٣٠—إيقاف الملاحقة».
ارتفعت المسيّرة عمودياً، دوّرت محرّكاتها بلا فائدة، ثم انسحبت دراماتيكيّاً نحو قاعدة الصيانة.
للمرة الأولى منذ سنين انسحب الحديد أمام الورق.
9
ـ اللحظة الفاصلة
الجنود أحاطوا الميدان. لم يأمرهم أحد بإطلاق النار؛
ما تلقّوه فقط هو أمرٌ قديم: «اقمعوا الاضطراب»
. لكن أيّ اضطراب؟ أوراق تطير، وأطفال يطاردونها
استدار جندي شابّ وأخرج من جيب معطفه ورقة منكمشة سفح لونها.
ألقاها أرضا قبل أن يحملها الهواء لتلحق بسرب الورق
تنهد وخلع خوذته
. تبعته خوذةٌ ثانية، ثالثة ورابعة
10
ـ بعد يومٍ واحد
لم تصدروزارة الضبط اللوني بيانًا؛ اكتفت بإغلاق أبوابها.التي كتب على واجهتها، تحت الشعار المحفور «الخيال فجوةُ نظام»، كتب مجهول بحبر أزرق كبير: «وكل فجوةٍ نافذة».
بحلول المساء، أعيد فتح مكتبةٍ قديمة عند ناصية السوق، وظهر على رفّها كتابٌ عنوانه «فنّ الحكاية»