1
شائعة المساء
مع غروبٍ نحاسيّ يغمر الطريق البري المخترق لصحراء الربع الخالي، لمح سليمان لوحة طريق بدت غريبة وسط الرمال. كانت العلامة المعدنية تنتصب وحيدة على كتف الطريق، بلون مختلف عن باقي العلامات التي شاهدها طوال رحلته الطويلة. مكتوبًا عليها: "404"، وأسفل الرقم سهمٌ ينغرس نحو الأفق. بدا مكانها غريبًا وكأنها لا تنتمي إلى هذا المسار إذ لم بسبق له رؤيتها من قبل ،
تجاوزها قاصدا .عند محطة وقود صغيرة ،
أوقف الشاحنة في طابور السيارات المنتظرة و نزل.
تحت أضواء المحطة الخافتة، كان رجلان يتحاوران بحماس
عبر بجوارهما مسرعا نحو البقالة الصغيرة في زاوية المحطة في حين تناهى إلى أذنه قول أحدهم
اليوم سمعت أن شخص رأى اللوحة "404".
أبطأ سليمان خطواتها أذ أنه رأها قبل دقائق
تابع الرجل:– يقولون إن من يدخل ذلك الطريق الرملي، يقطع سبع دقائق فقط، وبعدها يصل إلى أي المكان يتمناه، مهما كان بعيد. رد الآخر:
– اللوحة لا تعطيك وقتاً، هي تبرق فجأة كخلل في شاشة، وبعدها تختفي في نفس اللحظة.
استمع سليمان بتركيز، وعرف أن اللوحة التي رآها ليست خيالًا أو خدعة، بل حقيقة غريبة قد تحمل في طياتها قصة
.2
المغامرة
أهو الفضول أم حب المغامرة لا يعلم السبب لكن ما أن ملاء سيارته بالوقود حتى قرر سليمان تجربة الطريق 404 بنفسه.
وبسرعة استدار عائدا إلى المكان الذي رأى فيه اللوحة.
كان الهواء قد بدأ يبرد، وألوان الغروب تحولت إلى ظلال داكنة، لكنه وجد اللوحة المعدنية 404
في مكانها ما تزال تنتصب وحيدة على كتف الرمل، تلمع كأنها تومض وتدعوه للمغامرة
توقف لحظة، تنفس بعمق، وشعر بمزيج من الخوف والفضول يحركانه . جمع شجاعته، قبض بقوة على مقود الشاحنة، ثم ضغط دواسة البنزين ببطء نحو اللوحة. مع كل متر يقترب، أصبحت الأصوات حوله أهدأ، والرؤية تبدو كما لو أنها تتأرجح بين الواقع والخيال.
دخل إلى المسار الرملي. ، بدا الأمر كأنه يمر عبر شرخ بين صورتين؛
الرمل يتغير لونه كل ثانية، وشاشة الجي بي إس أمامه تلتقط ترددًا واحدًا يكرّر صفيرًا كصدى نبض.
في الدقيقة السابعة تحديدًا انطفأ المحرك،
---
بعد لحظات من التوقف، رأى سليمان أمامه مباشرة أضواء تتلألأ في الأفق،عرفها على الفور إذ أنه المكان الذي خطر على باله حين قرر التجربة
باريس مدينة النور..
حيث وارتفعت أمام ناظريه ظلال كاتدرائية نوتردام العريقة، ببنائها القوطي الذي لطالما أبهره في الصور والكتب.
تذكر كيف كان منذ صغره يتمنى زيارة باريس، و هذا المكان تحديدا أمام كتدرائية نوتردام، تأملها وحدق في تفاصيلها وكأنها باب لعالم آخر.
دهشته كانت عميقة، لم يصدق ما ترى عيناه. كيف حدث هذا؟ كيف انتقل بهذه السرعة الباهرة، إلى مكان لم يزرْه قط؟
شعور غريب، خليط من الذهول، والقلق ، وحتى نوع من الحيرة. نظر الى شاحنته يفحص معدّاتها، كل شيء كان كما عهده. لم يفقد شيئًا، ولا وقوع لأي خلل.
مع مرور الوقت، بدأت الدهشة تتحول إلى وعي. شيء غريب يحدث، وفكرة تلوح في ذهنه: ماذا لو كان بإمكانه استعمال هذا الطريق كممرّ،
ليس فقط لنفسه، بل للآخرين أيضاً
الذين يحلمون بالوصول سريعًا الى أماكن بعيدة؟
ماذا لو استفاد من الطريق بطرقة مختلفة أن يصبح "ناقلًا لمن يريد تجريب ذلك" نمت بداخله الفكرة ،هذه الطريق ستكون رحلته..
3
شركة الأحلام المحمولة
خلال أسابيع، كوّن سليمان سمعة جيدة في أوساط المغامرين،
فالفكرة الجديدة تبدو أكثر إثارة من ما اعتادو عليه من مغامرات داخل البيوت القديمة والمهجورة
تدفع، تركب، تغمض عينيك، تتمنى مكاناً.
وسوف تصل خلال سبع دقائق بالضبط
مسافرون يسعون للوصول بسرعة إلى أماكن بعيدة، وجدوا في الطريق 404 قصة فريدًا.
أصبحت محطة الوقود النائية على أطراف الطريق هي مكان تجمعهم يقصدونها من كل مكان حيث يجدون سليمان سائقة الشاحنة الوحيد الذي يعرف مكان اللوحة،
كان يكتفي بأن يدفعوا تكلفة الوقود أو مبلغ جيد من المال . وكلما عبر الطريق، زاد إحساسه بالقوة وكأن العالم على اتساعه يُطوى له.
4
بين بين
ذات مساء ، توقفت الشاحنة عند المحطة النائية. صعد رجل في بداية الثلاثينات ، يرتدي معطفاً بسيطاً، ووجهه يحمل علامات قلق وتردد واضحين. عرف عن نفسه باسم "ياسر". قال بنبرة مترددة:
– في الحقيقة لست متأكد من وجهتي كل الرغبات متشابكة في رأسي، أفكر ماذا لو أنتهى وقت الرحلة ووجدت نفسي فمكان لا أريده ..
أجابه سليمان
أجاب سليمان:
أن الطريق لا يختار المسار عوضًا عن الراكب، بل يعكس ما بداخلك بدقة.
ياسر:
بدأ الأنزعاج يظهر على سليمان فأسرع ياسر بالجلوس:
حسنا أريد فقط أن أذهب إلى إي مكان أحبه، إن أمكن.
فكر سليمان للحظة أن يطرده من شاحنته، الرحلة تحتاج وضوحا ماللذي يهذي به هذا الرجل ،
لكن ياسر لم يترك له خيار جلس على مقعد الراكب وربط حزامه وأشار له بالتحرك
ابتسم سليمان ،قال:
– الطريق لا يستطيع أن يأخذك إلى حيث تريد ما لم تكن تعرف أنت أين تريد حقًا أن تذهب. وأحيانًا، من لا يقرر يُجبر
– ماذا تقصد بيجبر.
أقصد يجبر على خيارات الأخرين، قالها بهدوء، وانطلقا نحو اللوحة 404
5
تيه
بعد سبع دقائق من عبور اللوحة وصلوا إلى فضاء مفتوح، يغطيه ضباب كثيف يحجب الأرض والسماء والأفق، خطوط تذوب بعضها في بعض، لا طريق واضحة ولا علامات تحدد الاتجاه.
كانت مساحة مبهمة، باردة، بلا معالم ثابتة
.نزل ياسر وهو ينظر حوله بفزع وارتباك:
– هل خدعتني؟ هل أنت تعرف هذا المكان وتعمدت أن تأخذني إليه
نظر سليمان حول المكان قبل أن يزفر:
مكان لا مكان،هذا على ما أظن يعكس حالتك: لا مكان محدد، مجرد فراغ متداخل بلا معنى، لأنك لم تحسم قرارًا واضحًا.
بتوجس تقدم ياسر يحاول أن يدقق النظر عله يجد شيء مفهوما في هذا المكان غير الصخور والضباب الذي كان يزداد كثافة مع الوقت.
– ، هل يمكنن أن أختار الآن؟
- لا ، إذا أردت إعادة الرحلة من البداية وبأجر جديد يمكنك حينها الأختيار
- ترددي كحرص ، ليس خطأً.
نظر إليه سليمان وقال بحزم:
– أحيانا ما تعتقده تحفّظًا قد يكون في الواقع فخًا يُأخذك إلى لا شيء .
تنهد ياسر ووضع كفيه في جيبه بدى عليه الاستسلام :
– الحذر واجب، هل تعتقد أن هناك ما هو أفضل من الحذر ؟
رد سليمان:
– ما رأيته منك كان تخبط لا صلة له بالحذر، لا من قريب ولا من بعيد
آسف،لكن الدنيا تحتاج لحسم، و الطريق لا يهدي إلا من يختار بوضوح، فالخوف من الخطأ أسوأ من الخطأ نفسه.
جلس ياسر على صخرة قريبة وسط الضباب،
– خسرت سنوات وأنا أتوقف بين خيار وآخر، والآن أجد نفسي في مكان بلا معنى و بلا خروج. قال سليمان:
– لا شيء في الحياة مضمون، ولكن لا يجوز أن تكون رهينة للخوف من الخطأ
.بعد دقائق من الصمت، نهض ياسر ونفض نفسه :
– حسنا أريد أن أخرج من هذا التيه، حتى لو أخطأت. أعدني من البداية من أمام اللوحة سأختار ما يخطر على ذهني على الفور لأفضل من بقائي هكذا عالق بين بين
وافقه سليمان بإيماءة من رأسه و إستدار نحو الشاحنة قائلا:
– هكذا نبدأ الرحلة الحقيقية.
6
طريق جديد
دارت الشاحنة، وبدأ الضباب يتلاشى تدريجيًا، بدأ ياسر يشعر بثقل التردد ينحسر قليلاً، ووضوح الطريق يعود.نظر للخلف وكأنه يفكر
قاطعه سليمان :
– اختر طريقك ولا تنظر للخلف كثيرًا ،الحياة في المضي قدمًا. التردد لا يحميك بل يسرقك،
7
محطة الوصول
وصلت الشاحنة إلى بداية الطريق قبل أن تتوقف عند المحطة النائية
تنهد ياسر وشكر سليمان على الرحلة نزل من الشاحنة تاركا المكان للراكب التالي،
وفي حين شقّ طريقه،مبتعدا عن المحطة كان ليل الصحراء البارد قد بدأت موجته فارتعش ووضع يده في جيبه
شعر بورقة داخله، أخرجها.
مكتوبًا عليها بخط سليمان:
"من لا يختار طريقه، يترك الخيار لمن يختار له."
ومن بعيد تلاشت لوحة 404 ببطء في الأفق،