15 Dec
15Dec


(1)

إنسحاب

«إن خرجتُ من هذه الحكاية، سأعيش الحياة على اتساعها.
لن أسمح لشيء أن يعيدني إلى هذا الظلام مرة أخرى.»

لم تقل الجملة بصوتٍ مسموع.
قالتها في الداخل، في اللحظة التي شعرت فيها أن غرفة المصحّة تفقد حدودها.كانت الغرفة بيضاء أكثر مما يجب، بياضٌ قاسٍ لا يترك للعين مهربًا.
رائحة معقّمة، مربكة.
كل شيء مسطّح، بلا ظلال حقيقية، حتى جسدها بدا لها كأنه فكرة أكثر منه حضورًا.

تسمع أصواتًا بعيدة خارج غرفتها..

خطوات، همسات، صرير عربة معدنية لكن الصوت الأوضح كان ذاك الذي ينبثق من داخلها،

 من الزوايا التي ظنّت أنها أغلقتها منذ زمن.أغمضت عينيها.
لم يكن نومًا، بل انسحابًا بطيئًا.
 عادت الجملة تتردّد، أضعف… وأكثر ثباتا، 

وانطفأ البياض.

***

(2)

إنبثاق


حين فتحت عينيها، كان البرد أول ما شعرت به.ثلج خفيف يتساقط بهدوء، وساحة واسعة تحيط بها قلاع شاهقة.
يغطي الثلج أسطحها، :
مصاعد زجاجية تصعد وتهبط على جوانبها،

 مسارات ضوئية تشقّ الحجر، وألوان لا تعرفها.

كانت المدينة مشرقة على نحو مقلق، منسقة أكثر من اللازم، كأن أحدهم انتهى لتوّه من ترتيبها.
وجدت نفسها واقفة في الساحة المركزية، وسط حشد كبير من الناس، كلهم يرتدون معاطف شتوية، وبخار أنفاسهم يتصاعد في الهواء.الغريب أنها لم تشعر بالغرابة.
لم يسألها أحد من تكون، ولم تتساءل هي لماذا هي هنا.
كأن وجودها مُدرج ضمن المشهد.

في قلب الساحة منصة خشبية مضاءة بضوء ذهبي دافئ.
لجنة صغيرة تستعد لإعلان نتيجة ما.
لم يُذكر نوعها، ولم تبحث هي عن تفسير.وقفت بجانب سيدة ، تحدّق في القلعة الرئيسية.
قالت السيدة، دون أن تلتفت:
«وهذا العام… النتيجة لن ترضي الجميع.»سألتها بهدوء:
«ما طبيعة المسابقة ؟»

أجابتها :
«هي ليست مسابقة.
هي طريقة المدينة لفرز الناس.»لم تفهم رغم كونها تشعر أن تواجدها هنا مألوف 

سألت مرة أخرى 

لكن أي فرز تقصد؟؟.
أجابتها السيدة:

في هذه المدينة، الأجوبة لا تُشرح، بل تُحَسّ

.بينما بدأ أحد أعضاء اللجنة يتحدث.
ساد الصمت.
أسماء، عبارات عامة، توترٌ خافت يسري في الجسد.

لكن نظرها انجذب إلى مصعدٍ زجاجي على جانب القلعة.
كان يصعد ببطء، كأنه لا يحمل وزنًا، ولا يستعجل الوصول.رأت ظلّ شخص بداخله.
لم تستطع تمييز ملامحه، فقط إحساس غامض بأن المصعد لا يرفعه فحسب…
بل يقرّبه من مكان لا يُسمح للجميع ببلوغه.شعرت برجفةٍ خفيفة.
ليست من البرد، بل من تلك اللحظة التي يتغيّر فيها الهواء قبل حدوث أمرٍ مهم.عندما أُعلنت النتيجة، تعالت الهتافات والاعتراضات معًا.
أما السيدة بجانبها فقالت بهدوء:
«كل المعترضين.. كان الخيار لهم منذ البداية .

«لكن ليس كل خيار يُؤخذ.
 بعض الخيارات… تُترك لتنضج قليلًا،
 لتعرف إن كان صاحبها قادرًا على حملها.»

نظرت إليها، تحاول أن تفهم.
 فأكملت السيدة:
 «المدينة لا تكافئ الأقوى،
 بل الذي لم ينكسر حين كان ذلك خياراً ممكنًا.»

التفتت لتسألها…
لكن المكان كان فارغًا.
لا أثر لخطوات على الثلج، ولا لأي حضور سابق.رفعت نظرها إلى القلعة.
كان المصعد قد توقف في الأعلى،
والظل اختفى.في تلك اللحظة، شعرت أن المدينة بأكملها تنظر إليها.
كأن الحجر والزجاج والضوء كوّنوا عينًا واحدة.ثم هبّت نسمة باردة، حملت الثلج برفق،
وكأنها تقول لها:
دورك ليس اليوم.
لكنك لستِ غريبة عن هنا.عاد الضجيج، وتفرّق الناس، واستمر الثلج في السقوط.
كل شيء بدا طبيعيًا…
عدا ذلك الشعور العنيد بأن القلاع تمتلك ذاكرة،
وأن وجودها لم يكن صدفة.


***

(3)

عودة

لم تفتح عينيها دفعةً واحدة.
 كأن جسدها كان يفاوضها على العودة.

الصوت قبل الصورة،
 والثقل قبل المعنى.

وحين استقرّ وعيها أخيرًا،
 عرفت دون دهشة
 أنها لم تغادر المكان فعلًا.

البياض حولها  كما هو.
 هادئًا.
 مراقبًا.
والرائحة المعقّمة لم تتغير.حاولت لكن معناها لم يكن ذات المعنى
وكأنها حكاية مختلفة
داخلها ترددت العبارة مرة أخرى 
 كوشم داخلي:

إن خرجت من هذه الحكاية، سأعيش الحياة على اتساعها.تفهم الآن معنى «إن».
ليست وعدًا،
بل شرطً للخروج
و خطوة واحدة فقط.كافية لتبدأ الاختبار


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.