15
الحفلة الأخيرة
حاول تتذكرني طلع كلام زمان أني توفيت، قالوا أني مت في حادث سيارة قبل سبع سنوات، تتذكر ؟
كلمات الرجل هذه أعادتني الى الوراء مرة أخرى لتذكرني بالقصة التي يقول أنه سوف حيكيها من جانبه
لكن ما ااعرفه أنا عنها
قبل سبعة سنوات من اليوم
يوم حفلتي الأخيرة
آخر أداء لي على المسرح لا يمكن أن أنسى ذلك اليوم مطلقا..
ليس فقط لكونه اليوم الأخير في حياتي الفنية ولكن لكونه اليوم الذي توقف فيه كل شيء عن كونه طبيعي
وبالاصح قبل الحفلة بيوم واحد كانت بروفات الاستعداد قائمة على قدم وساق يوم منهك طويل
كنتُ واقفًا وسط خشبة المسرح أحاول للمرّة الألف أن أُخرج من حنجرتي الجملة نفسها من دون أن ترتعش.
الأضواء البيضاء كانت تلسع عينيّ،
والكمانات صرت من الأنهاك أشعر وكأنها تطنّ حولي مثل سرب نحل. رفعتُ يدي أخيرًا، وانقطع العزف لحظة واحدة.
«عشرة دقايق راحة يا شباب!» هتفت،
كنتُ بحاجة إلى ماء، إلى هواء، إلى أيّ شيء يطفئ الحريق في حلقي. فتّشتُ عن قارورتي، وجدتها فارغة تمامًا مثل بطارية هاتفي وأنا أبحث بعيني عن مصدر للرطوبة، سمعتُ وقع خطواتٍ متريّثة في الممرّ الخلفي. التفتُّ، فإذا بيوسف زين –الاسم الذي كبُرت وأنا أردّد ألحانه والذي أصبح اليوم صديقا مقربا – يدخل حاملاً حقيبةً صغيرة وعلبة مشروب طاقة باردة يلمع معدنه تحت الضوء.
ابتسم لي و صافحني ، قال:
«قلت أمرّ أطمّن على الفنان قبل ما تفتح الستارة.»
ضحكتُ ضحكةً متعبة ورددت: «الفنان حاليا يحتاج شحن بطاريته.»
رفع العلبة قريبًا من وجهي كأنها كأس نصر: «Sugar-Free. عشان سكرك. منشِّط ويروي العطش، جرّبه.»
لم أملك رفاهية الرفض؛ العطش كان يعضّ لساني. أشرتُ إلى غرفة الملابس: «ندخل دقيقة، أسجّل ملاحظتك على البروفة وأريح رجلي.»
دخلنا؛ في صدر الغرفة مرآة كبيرة يطوّقها صفّ من المصابيح الصفراء، وتحتها طاولة مترعة بالفوضى.
وضع يوسف العلبة قرب المرآة، ثم أخرج كراسة سميكة.
قال وهو يقلب الصفحات: «هاذي راح تكون قدامك وقت الحفل بس برضو مهم إنك تحفظ الكلمات.»
بإذن الله كل شيء راح يكون تمام
قلتها. وأنا أومئ له، أخرجت قلم الإنسولين المستعمل من جيبي، نزعته، ووضعته على الطاولة سلّمت ظهري للمرآة لحظة، لكني لمحته بطرف عيني: قلم أنسولين آخر فارغ جوار العلبة المعدنية الباردة؛ تفصيلة صغيرة لم أعرها انتباه وقتها لكنها الآن تلمع في ذاكرتي كما لو كانت إشارة تحذير حمراء.
«اشرب قبل ما يسخن،» قال وهو يغلق كراسته. «و أنا أعدّي على الاستوديو وأرجع.»
خرج، وبقيتُ أنا وحدي أُحدّق في المعدن اللامع قطرات ماء تتكاثف على السطح وأحسستُ بحلقِي يزداد جفافًا.
أدرتُ الغطاء، تدفّقت رائحة حمضياتٍ باردة؛ رفعتُ العلبة وشربت. كان الطعم منعشًا على نحوٍ يجعلني أُغمض عيني للحظة وأتخيّل أنّ التعب غادر جسدي.
فتحتُ عيني على المرآة، فرأيتُ وجهي يتصبّب عرقًا، ورأيتُ القلم الفارغ يشير إلى الصفر، كأنه يذكّرني بما دخَل دمي من وحداتٍ قبل قليل. قلتُ لنفسي: «لا بأس، المشروب خالٍ من السكر»، وخرجتُ لأستأنف البروفة.
لم أكن أعلم أني في تلك اللحظة أنَّ الصفر المرسوم على قلم الإنسولين كان –بالنسبة لي– الرقم الأكثر خطورة في الدنيا.
***
16
أسدل الستار
انتهت البروفة أخيرًا مع دويّ آخر نغمةٍ في البيانو،
وتركتُ المسرح بينما أطفئتُ الميكروفون.
كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة والنصف، وأعضاء الفرقة يطوون الآتهم. حيّيتهم بيدٍ مرتجفة لم أشأ أن يلاحظها أحد، ثم خطوتُ نحو الممرّ الخلفي المؤدي إلى موقف السيارات.
كنتُ أشعر بنوعٍ غريب من الخِفّة؛ خفّة لا تشبه الانتشاء بعد نجاح بروفة، بل أشبه بالفراغ. قلتُ لنفسي: “ربما لأنّي شربتُ ذلك المشروب على جرعةٍ واحدة”.
زادني التفكير عطشًا، لكن قارورة الماء الاحتياطية في حقيبتي كانت بدورها خالية.
وضعتُ العود على المقعد الخلفي لسيارتي، جلستُ خلف المقود، وتحركت.
أدرتُ الراديو. كانت المذيعة تتحدّث عن “ليلة موسيقية تاريخية بانتظار الغد”، تقصد حفلتي طبعًا.
ابتسمتُ تلقائيًّا، ثم تلاشى خط الابتسامة مع أوّل ومضة دوارٍ ضربت رأسي.
ثبَّتُ يديّ على المقود. حاولتُ إقناع نفسي أنّ الأمر تعبٌ طبيعي، لكن العالم أمامي بدأ يكتسب هالةً ضبابية، والأضواء الحمراء للفرامل في السيارة التي أمامي صارت تتكاثف حتى بدت لي كزهرتَي خشخاش هائمتين في الليل.
فتحتُ النافذةً ليدخل الهواء البارد، فاجأني عرقٌ بارد يتصبّب من صدغيّ. انتبهتُ أن أصابعي ترتعش.
“هبوط سكّر؟ مستحيل، جرعتي كانت محسوبة، والمشروب خالٍ من…” خالٍ من السكر، نعم، لكن لماذا إذن أشعر وكأن أحدهم سرّب ثقلًا من الرصاص إلى أطرافي؟
قرصتُ فخذي ، تلك العادة التي أتأكد بها من أنّ أعصابي ما تزال حيّة؛ الألم جاء باهتًا. مددتُ يدي إلى درج السيارة بحثًا عن قطعة حلوى للطوارئ، فلم أجد سوى أوراق قديمة وعلبة علكة خالية.
أضواء الإشارة المقبلة انقلبت صفراء. ضغطتُ على المكابح، لكنّ قدمي نفسها كانت ترتعش. أدركتُ أنني إن لم أتناول جلوكوزًا سريعًا خلال دقائق، فسأفقد السيطرة حرفيًّا.
تذكّرتُ أن جهاز القياس في حقيبتي بالصندوق الخلفي، حيث العود. استحال عليّ أن أتوقّف هنا في منتصف التقاطع.
تابعتُ السير؛ الشارع كان شبه خالٍ، ومع ذلك بدا لي مزدحمًا بفقاعات ضوء تتراقص بلا انتظام. تنفّستُ بعمق، وقلتُ لنفسي إنّ المسافة إلى أقرب محطة بنزين ليست بعيدة : هناك، يمكنني شراء عصير أو قطعة شوكولا، إنه حلٌّ بسيط.
لكن بعد أقل من دقيقتين، بدأ الفراغ الأبيض يزحف على أطراف بصري كستارٍ ثلجيٍّ ، وسمعتُ خفقان قلبي يصدر من سماعات السيارة بدلاً من الموسيقى. حتّى الكلمات التي كانت المذيعة تقولها ذابت إلى همهمةٍ بلا معنى.
في تلك اللحظة بالذات، ظهر نورٌ صغيرٌ أمامي، نورٌ يشبه عين قطةٍ تعكس المصباح الخلفي: مصباح درّاجةٍ ناريّة. حاولتُ التركيز عليه، كأنّ التركيز سيعيد للعالم معناه، لكن النور تفرّع إلى ثلاثة، ثم إلى خمسة، ثم اختلط بالأضواء …
لم أعد قادرًا على رسم الحدود.
ضغطتُ على الفرامل بكل ما بقي لدي من وعي، لكن ساقي ارتجفت كما لو أنّها منفصلة عني.
سمعتُ صريرًا خافتًا، شعرتُ أنّ العجلات اختنقت تحت قدمي، ثم تحوّل الضوء الصغير إلى كتلةٍ قريبةٍ جدًّا
لم أعد أرى إلا خوذةً براقة تقترب من الزجاج الأمامي كأنها كرة مسرعة.
عند تلك النقطة، انقطع الفيلم: صمتٌ مريع،
ثقلٌ يتكسّر، وشيء ما ارتطم بالأرض.
***
يتبع في الأسبوع القادم