29 Aug
29Aug



لم تكن قرية الساحل يومًا تشبه المدينة. 

كانت مكانًا بسيطًا، يعيش على إيقاع البحر وحده؛ 

صيادون يخرجون مع الفجر في قوارب خشبية ضيقة، يعودون محمّلين بما تجود به الشباك. 

وجوههم غسلتها الملوحة أكثر مما غسلتها المياه العذبة، وأحاديثهم تبدأ دائمًا بالموج وتنتهي عنده.

بعكس المدينة، التي كانت تعيش على إيقاع آخر؛ 

صاخبة كضجيج أسواقها، متعالية كجدرانها العالية.

 بينهما ظلّت مسافة غامضة، ليست كلها جغرافيا. 

مسافة تُروى عنها حكايات متضاربة: 

بعضهم يقول إنها بدأت حين حاول رجال المدينة فرض سلطانهم على الميناء الصغير، وبعضهم يقسم أن الرصاص دوّى فعلًا، وأن الدماء اختلطت بماء البحر. وآخرون يتسمون بالدبلوماسية ،

يقولون: لم يكن أكثر من خلافٍ في اللغة والعيش.لكن النتيجة واحدة: لم يكن الغريب من المدينة مرحَّبًا به على قرية الساحل. 

صار يُنظر إليه كظلٍ طويل لا يبعث الاطمئنان. 

وكأن الماضي، مهما اختلفت رواياته، ترك في القلوب طعمًا مالحًا لا يزول.

دارت تلك المفارقة  في ذهن سعدى في مساء يوم غائم وهي تراقب ركاب  الحافلة  يصعدون واحدًا تلو الآخر. كان معظمهم من أبناء الساحل العائدين إلى بلدتهم الصغيرة بعد أسبوع عملٍ طويل في المدينة . 

أما هي فكانت الوحيدة التي وصفت رحلتها بـ "النزهة والمغامرة".

 لهذا بدت غريبة بعض الشيء بملابسها ولهجتها بين هؤلاء الذين تميّزوا بملابسهم المزركشة ولهجاتهم الساحلية.

انطلقت الحافلة بعد أن أعلن السائق بصوت جاد عبر مكبر الصوت الداخلي:
 – تشير الأرصاد إلى عاصفة ممطرة الليلة، قد تكون مصحوبة برعدٍ قوي.

استرخت سعدى في مقعدها، وأخرجت كتابًا تقرأ فيه: هل الصور التي تمتلئ بها أذهاننا إلا رسوم ضئيلة لحقائق هذا الكون؟ …

 لكن سرعان ما قطع تركيزها إحساسها بنظرات السائق المتكررة عبر المرآة.

عند الاستراحة الأولى، اقترب منها السائق وسأل بعد تردد:
 – هل لديكِ أقارب في قرية الساحل؟
 – لا… أنا في زيارة صديقة قديمة.
 هزّ رأسه بتوجس:
 – وحدكِ؟ المنطقة هناك …

نوعا ً.. غير مناسبة

 أقصد .

الناس هناك .

.قاطعته:

-  تقصد لا يحبون أهل المدينة ؟

هز رأسه موافقاً ، فقالت:

لا عليك أنا ذاهبة لزيارة صديقة هناك

هي تعمل في المدينةأعرفها منذ وقت طويل

تردد قليلا،  قبل أن يقول:

 كوني حذرة. 

ابتسمت، لكنها في داخلها شعرت بشيء من الخوف بدأ يتسلل إليها.

كحركة احترازية أمسكت بهاتفها وأرسلت رسالة صوتية تؤكد لصديقتها على اقتراب الحافلة من محطة الوصول للساحل .

أنهت التسجيل وألقت الهاتف في الحقيبة لتعد إلى مقعدها في الحافة وإلى كتابها 

***

صوت الرعد بدى قوياً حين أيقظ سعدى 

فتحت عينيها وهي لا تدري متى غلبها النوم

أغلقت الكتاب واقتربت  من النافذة وقد بدى البحر يلوح من بعيد معلنا أقترابهم من المحطة التالية قرية الساحل

 كانت كلمات السائق لا تزال عالقة في رأسها: "المنطقة هناك… نوعًا ما غير مناسبة."
 أمسكت هاتفهاى وبدأت تتصل بصديقتها. رنة طويلة… ولا رد. 

أعادت المحاولة، مرة ثانية،

إنتظار طويل آخر انتهى بلا رد.

مرة ثالثة، رابعة 

ثم فتحت نافذة المحادثة تبحث عن أي رسالة، لكنها وجدت آخر تحديث كما هو رسالتها الصوتية  مسموعة قبل ساعتين لكن بلا رد 

شعرت بشيء بارد يهبط في صدرها.

عاودت تكرر الاتصال بإلحاح . 

هذه المرة أجابت صديقتها بصوت مضطرب، تكاد تبتلع كلماتها:
 – سعدى… آسفة… لن أستطيع مقابلتك.
 – ماذا؟ لكني وصلت تقريبًا.
 – الجو… العاصفة قوية… لن أتمكن من الخروج.
 – لا بأس، أستطيع المجيء إلى منزلك.
 ساد صمت قصير، ثم جاء صوتها أوضح، لكن أثقل:
 – ليس الأمر بيدي. أمي ترفض… تقول إن استقبال ضيفة من المدينة هذه الليلة سيجلب كلام الناس. أرجوك افهمي…

شعرت سعدى بالدم يتراجع من وجهها.
 – لكن…
 – أعلم… أعلم يا سعدى. حاولت أن أشرح لهم… لكن لا فائدة. صدقيني… الأفضل أن تعودي.

وقبل أن تلتقط سعدى أنفاسها، انقطع الخط.
 نظرت إلى شاشة الهاتف التي أظلمت فجأة، وكأنها أغلقت في وجهها كل أبواب القرية.

 للحظة، شعرت أن المحطة تضيق، وأن الوجوه المحيطة بها صارت أقرب، أثقل، 

وكأنها تحاصرها.

ما أن توقفت الحافلة وبدأ الركاب في النزول ترددت قليللا قبل أن تجر قدمها لتخرج نحو بوابة المحطة 

سارت بخطوات مترددة باتجاه لوحة الرحلات المعلقة عند المدخل، تحدّق فيها بعينين مرتجفتين.

 الكلمات المضيئة ظهرت كأحكام نهائية لا تقبل النقاش: 

وقت الرحلة القادمة– التاسعة صباحًا

ارتعش قلبها؛ عشر ساعات كاملة من الانتظار. والليل يهبط مسرعًا، والعاصفة على أشدها.

 أين تقضي هذا الوقت؟ كيف تواجه ليلًا طويلًا، بلا مأوى، في قرية صغيرة لا تريدها ، وسماء غاضبة لا ترحم؟ بدا وكأن السبل كلها تقطّعت دفعة واحدة، ولم يتبقَّ أمامها إلا مواجهة موقفها وجهًا لوجه.

بينما كانت عيناها معلقتين بلوحة الرحلات، لمحت في طرف القاعة رجلاً مسنًّا يضع لافتة خشبية صغيرة على عربة معدنية قديمة: 

غرف للمبيت – فندق البحر القديم. كان يلوّح بين الحين والآخر للمسافرين  لكن.

ترددت سعدى. اسم الفندق لم يوح لها بالراحة، بل بالبرودة والرطوبة. ومع ذلك، لم يكن أمامها خيار آخر. اقتربت بخطواتها الثقيلة، فسارع الرجل يسأل:
 – تبحثين عن مكان تقضين فيه الليل يا ابنتي؟
 أومأت دون أن تنطق. تابع:
 – العاصفة ستشتد، ولا حافلات قبل الصباح. الفندق ليس فاخرًا، لكنه خيار جيد في هذا الوقت ،

مد يده إلى حقيبتها ليوجهها نحو الباب الجانبي حيث تقف سيارة قديمة بالانتظار  صعدت بصمت وجلست قرب النافذة.

 خارج الزجاج كانت الشوارع الضيقة شبه غارقة، الأنوار الخافتة تتمايل مع المطر، والبحر على مقربة يهدر.

بعد دقائق توقفت السيارة أمام مبنى متوسط الحجم متشقق الطلاء، تتدلى من بابه لافتة نحاسية باهتة كتب عليها: فندق البحر القديم

بدا المكان أشبه ببيت منسي أكثر من كونه فندقًا. 

لكنه متلائم مع طبيعة القرية البسيطة

***

 

في غرفتها في الفندق جلست في صمتٍ متوتر، تحاول التركيز في كتابها، فيما العاصفة تضرب جدران الفندق العتيق. لم يكن في الغرفة سوى ضوء أصفر باهت يتمايل مع اهتزاز المصباح. 

دفعتها غريزتها إلى الوقوف قرب النافذة، سحبت الستارة .هناك، وسط السواد المتلاطم، رأت ما يشبه قوسًا خشبيًا يخرج من بطن البحر. للحظةٍ حسبته حطامًا عاديًا، ثم تذكّرت الحكاية التي قصّتها عليها صديقتها قبل سنوات: 

“هيكل السفينة الغارقة… التي لم يجدوا جثث ركابها قط. يقولون إن البحر يلفظها أحيانًا عند العواصف، .

انقبض صدرها. 

انعكس برقٌ خاطف على سطح الماء، فأضاء المشهد لثوانٍ قصيرة:

 عوارض مائلة، ألواح خشبية سوداء كأنها عظام متآكلة، وكل ذلك بدا كيدٍ ضخمة تحاول أن تنهض من الأعماق.تراجعت إلى الوراء واصطدمت بحافة السرير، قلبها يخفق بعنف. أغلقت الستارة بسرعة، لكنها بقيت تسمع صرير البحر وكأنه يجرّ شيئًا ثقيلاً إلى الشاطئ.همست لنفسها محاولة إقناع عقلها:
 – إنها مجرد خرافة… خرافة لا أكثر.

لكنها حين التفتت إلى الجدار، رأت لوحة السفينة المعلقة تتحرك قليلًا، أو هكذا خُيّل إليها. الظل في إطارها لم يعد مجرد ظل؛ صار قريبًا من هيكل السفينة الذي لمحته في الخارج. كأن الغرفة والفندق والقرية كلّها متواطئة لتذكيرها بأنها دخيلة …

 تمدّدت على السرير في محاولة يائسة للنوم. لكن الرياح صفعت النوافذ كأنها أيدٍ غاضبة تريد اقتلاعها. 

.أغمضت عينيها بقوة، لكن الصور تسللت رغمًا عنها: هيكل السفينة يرتفع من البحر، والألواح الخشبية تتخذ شكل وجوه مشوهة تفتح أفواهها وكأنها تصرخ بلا صوت

.فجأة، سمعت وكأن صوت طرق خفيف على باب غرفتها.
 تجمدت. التفتت نحو الباب وعيناها تتسعان. لم يكن أحد من موظفي الفندق قد صعد، على الأقل لم تسمع وقع خطوات. 

ترددت لثوانٍ قبل أن تقترب، مدت يدها المرتجفة، فتحت الباب قليلًا… 

ولا شيء. ممر طويل مظلم، يقطعه ضوء متقطع من مصباح يكاد ينطفئ.عادت مسرعة وأحكمت إغلاق الباب. 

جلست على الأرض، تسمع أنفاسها تتسارع. ثم التفتت فجأة نحو النافذة: 

الستارة تحركت وحدها، كأن أحدًا ما مرّ خلفها.اقتربت بخطوات مترددة، مدت يدها وأزاحت القماش. البحر هناك كان أعمق من سواد الليل. لكنها رأت بوضوح ظلّ السفينة يقترب أكثر من الشاطئ، حتى ظنت أنها تسمع صوت ألواحها تصطكّ ببعضها.

 انعكس برق خاطف آخر، أظهر على سطح الماء وكأن  وجوهًا باهتة ،

 وجوه غارقة تحدّق فيها مباشرة

.شهقت وأغلقت النافذة بعنف، ثم سقطت على السرير. 

شعرت وكأن أصواتٌ خافتة أخذت تتردد في الغرفة، كهمسات متقطعة. 
وضعت الوسادة فوق رأسها لتخمد الأصوات، لكن حتى ثقل الوسادة لم يمنعها من سماعها.

 شعرت أن الغرفة تضيق، أن الجدران تقترب منها، وأن رطوبة البحر تسللت إلى المكان فصار الهواء ثقيلاً، خانقًا.

تجمدت الدموع في عينيها. لم تجرؤ على الحركة. كل ما فعلته هو أن شبكت يديها فوق صدرها، مغمضة العينين، تدعو ألا يُفتح الباب

 لم تعد قادرة على البقاء وحدها بين أربعة جدران تخنقها. نهضت فجأة، أمسكت بمعطفها وحقيبتها الصغيرة، وقررت أن تنزل إلى بهو الفندق.

الممر بدا أضيق مما رأته سابقًا، والمصابيح المصفوفة على الجدران ارتجفت أضواؤها مع كل هبة ريح، حتى خُيّل لها أنها تسير في باطن سفينة مهترئة.

 أسرعت في خطواتها وكأنها تخشى أن يسبقها شيء ما.

حين فتحت باب البهو، باغتها دفء المكان. مدفأة كبيرة مشتعلة تتوسط الصالة، وحولها بعض النزلاء يجلسون في حلقات متباعدة، يحتسون قهوةً أو حساءً ساخنًا، 

يحاولون نسيان العاصفة التي تحاصرهم في الخارج. ضحكات باهتة تتناثر بين الطاولات، وهدوءٌ نسبي يختلف عن كابوس غرفتها.

اختارت زاوية قريبة من المدفأة وجلست، تراقب النار .

 للحظة شعرت بشيء من الأمان. الناس هنا موجودون، يتحدثون، يتحركون. إنها ليست وحدها.

مدّت بصرها إلى الجاليسين : 

رجال بملابس سميكة خشنة، نساء بأوشحة صوفية ساطعة الألوان، ووجوه 

محروقة بالشمس والملح. كل حركة، كل نبرة، تحمل طابع المكان وسكانه.

 أحست بأنها أشبه بغريبة هبطت على أرضٍ لا تعرفها.

لم يمض وقت طويل حتى بدأت تشعر بالعيون. 

نظرات خاطفة تتسلل إليها من الطاولات المجاورة، كأنها خيط بارد يلمس جلدها. 

رجل مسنّ رفع رأسه عن طبقه، امرأة أوقفت حديثها لتتأملها بصمت، شاب تمتم شيئًا في أذن رفيقه، وضحكة مكتومة تبعته.

حتى صوتها الداخلي بدا كأنه يلومها: ألم تكن صديقتك محقة؟ لا مكان لكِ بينهم… لا بيت، ولا وجه مألوف، ولا حتى نظرة ترحيب.ا

زدادت النار أمامها توهّجًا، لكن دفئها لم يصل. ما شعرت به فقط هو أنفاس ثقيلة في المكان، وأنها محاصرة بوجوه ترى فيها غريبة… دخيلة من المدينة، 

لا تنتمي لليلهم ولا لعاصفتهم.ازدادت وطأة النظرات حتى شعرت سعدى أن الهواء في البهو يثقل صدرها. 

كانت تحاول أن تقنع نفسها أن الأمر مجرد فضول بريء من أهل قرية صغيرة، لكن الهمسات المتقطعة التي التقطتها أذناها سرعان ما أفسدت محاولتها.

رجلٌ مسنّ مال نحو جليسه وهمس بصوت لم يخلُ من التحذير:
 – الغرباء يوقظون البحر… هكذا يقول الأجداد.رفيقه هز رأسه موافقًا وهو يرمقها بطرف عينه:
 – خصوصًا في ليالٍ كهذه، عندما تعلو الأمواج ويُرى هيكل السفينة الغارقة.

شعرت بدمها ينسحب من وجهها. لم يكونوا يتحدثون إليها مباشرة، لكن الكلمات وصلت.

 يقولون إن أرواح الغرقى لا تهدأ، وتكره وجود الغرباء في البلدة.

 نظراتهم؛ كانت طويلة، مثقلة، وكأنهم يدرسون ملامحها ليقرروا إن كانت حقًا ستجلب الشر.

هل أصبح وجودها هنا لعنة بالفعل؟ هل ينظرون إليها كطائر شؤم جلبته العاصفة؟انكمشت أكثر في مقعدها، والبحر خلف الجدران يزمجر كوحشٍ يعرف اسمها.

عادت نظراتها نحو النافذة الكبيرة، كأن قوة خفية تدفعها إلى مواجهة الخوف. هناك، بين انكسار البرق، رأت بوضوح أكبر: جزء من السفينة الغارقة يطفو ويعلو مع كل موجة، وعليه خيالات بشرية ترتجف مع حركة الخشب. لم تعد متأكدة إن كانت أشباحاً أم مجرد أوهام.

وفي تلك اللحظة، دوّى صوت الباب الخشبي للفندق وهو يُغلق بقوة، كأن عاصفة اقتلعته. التفتت، فرأت أن أغلب الموجودين في البهو قد رفعوا أعينهم نحوها، لا نحو الباب، 

كأنهم جميعاً اتفقوا على شيءٍ واحد: أن الخطر ليس في الخارج فقط…

نهضت فجأة من مقعدها، لم تعد تحتمل تلك النظرات التي تلتصق بها كالإبر، 

جمعت معطفها بين يديها، واتجهت نحو الدرج بخطوات مسرعة، تشعر بأن كل عين في البهو تتبعها حتى آخر درجة.

حين وصلت إلى الممر المظلم المؤدي لغرفتها، شعرت بالريح تزحف من تحت النوافذ القديمة، تحمل معها رائحة البحر المالح كأنها تلاحقها.
 أدخلت المفتاح المرتعش في القفل، ودخلت مسرعة، ثم أغلقت الباب خلفها بقوة جعلت الصدى يتردد في الممر.

لكن الإغلاق لم يمنحها الأمان؛ على العكس، بدا وكأنها علِقت في قفص ضيق مع خوفها. تسلّل إلى ذهنها صوت صديقتها وهي تقول: 

"سكان الساحل لا يثقون بالغرباء… البحر لا يرحم من لا يعرفه."

اقتربت من الباب مرة أخرى، فتحته قليلا لتنظر، فلمحت خيالاً عابراً يتحرك في الممر. تراجعت بسرعة، 

وأغلقته مرة أخرى 

وضعت الكرسي الخشبي الوحيد تحت المقبض، ثم سحبت طاولة صغيرة وسندتها خلفه. قلبها يخفق كطبول حرب.جلست على السرير، تحدّق في الباب المرتجف مع صفعات العاصفة، متخيلة أن أحدهم سيقتحمه في أي لحظة.

 كل صرير في الخشب، كل صفير للريح، بدا كأنه خطوات تقترب منها.رفعت بصرها إلى النافذة، فلم تجد سوى ظلمة البحر، لكن بين ومضات البرق ظنت أنها ترى شيئًا يتقدّم نحو الشاطئ… شيئًا يتحرك فوق الأمواج لا يغرق.


 .غطّت  رأسها بالوسادة، محاوِلة أن تحجب أصوات الريح والهمسات المتقطعة التي لم تكن تعرف إن كانت تأتي من داخلها أم من خارج الغرفة. قلبها ظل يخفق بعنف .

***

لم تعلم كم من الوقت مضى وهي نائمة لكنها  فتحت وعيها على ضوء ساطع.
 أزاحت الوسادة عن وجهها، لتكتشف أن الغرفة غمرتها أشعة الشمس ، تتسلل من النافذة وتنعكس على الجدران. نهضت بتردد، اقتربت من النافذة،

.البحر كان هادئًا، لامعًا تحت الصباح، كأن الليل لم يترك أي أثر.

 وفي البعيد، كان حطام السفينة يبدو كسفينة .

قديمة نصف غارقة، عادية، لا تحمل أي سرٍّ أو أرواح. لا وجوه، لا أشباح، فقط الخشب المتآكل والطحالب.

لكنها لم تستطع أن تقنع نفسها أن ما عاشته كان حلمًا.
 ما زال الكرسي يقف خلف الباب، مائلًا كأن أحدًا دفعه في الليل.

أشارت ساعتها لثامنة مما يعني قرب موعد رحلة المغادرة 

حملت حقيبتها ونزلت السلالم بخطوات مترددة. قلبها يخفق وهي تتذكر وجوه الليلة الماضية، 

النظرات الثقيلة والهمسات التي التصقت بها البارحة

 حين وصلت إلى البهو، شعرت .كأنها دخلت مكانًا آخر.الأمس كان البهو يعج بوجوه قاسية، همسات تلاحقها، عيون لا ترمش. أما الآن، فالمكان يعج بأناس مختلفين تمامًا: رجال بربطات عنق أنيقة، نساء بثياب عصرية، أطفال يركضون بضحكات طبيعية.

 حتى الأثاث بدا وكأنه أكثر إشراقًا، والهواء أقل رطوبة.لكن أكثر ما أدهشها أنّه لم يبقَ أي أثر لليلة الماضية. لا الوجوه المتجهمة، ولا النظرات الثقيلة، وكأن كل شيء قد مُسح، 

أو لم يكن موجودًا أبدًا.

خرجت  من باب الفندق، أشعة الشمس تسقط على كتفيها كدفءٍ غريب بعد الليلةٍ الباردة.

 الطريق المؤدي إلى المحطة كان هادئًا، الطيور تحلّق فوق السقف الخشبي للفندق، والبحر في الأفق يلمع بلونٍ أزرق صافٍ، وجوه الناس في الطريق مألوفة، دافئة، حتى أنها لمحت ابتسامة عابرة من عجوز تحمل سلة خبز. 

للحظة، شعرت كأن أحداث البارحة لم تكن سوى حلمٍ ثقيل.بينها وبين نفسها فكرت:
 "هل كنتُ أتوهّم؟ أم أنّ الليل فعلا يخفي أشياء لا تظهر ..إلا حين يختفي الضوء؟"

تمت



تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.