فتحت سارة عينيَّها فجرًا على شيءٍ لم تختبره من قبل: صمتٌ تتردّد أصداؤه في كل زاوية من الغرفة.
كيف تتردد أصداء الصمت؟؟
لا تعرف لكن هذا كان شعورها وحسب.
لا صياح ديكٍ بعيد، لا أزيز مكيّفٍ عجوز، حتى نبضات قلبها بدت أبطأ، كأنها تخشى أن تفسد الهدوء المطبوع على هذا الصباح الغامض.
مدت يدها إلى الجوال كما تفعل كل يوم.
ضوء الشاشة أضاء وجهها لكنه ظل أبكم.
جرَّبتُ زرَّ الصوت، رفعتُ وخفّضتُ مستوى الرنين،
حاولتُ تشغيل مقطع موسيقي؛ لا شيء. كان الشعور مربكًا: كأن العالم فقد وترًا كاملًا من روحه.
2.
في الخارج
ارتدت ملابسها بسرعة وهرعتُ إلى الخارج بحثا عن أي إشارة حياة.
الشارع الذي اعتادت سماع ضجيجه ليل نهار بدا لوحةً ثابتة،
سيارات مصطفّة دونهدير محركات، نوافذ مبانٍ مغلقة، وطيور تقف على الأسلاك بلا أي تغريد في سكونٍ تام حتى خفقات أجنحتها بدت صامتة بلا معنى .
رفعتُ يدها ملوّحةً لجارتها في الشرفة المقابلة؛ ابتسمت ولوّحت لها بدورها ،
لكنها لم تقل شيئًا.
نظرت حولها
الناس يلوحون لبعضهم بلا كلامات ولا حتى همهمات
إذا هل هذا الصمت ليس فقدان سمعها بل ظاهرة عامة؟.
3.
على الرصيف
على بُعد خطوتين من باب البناية، توقَّفتُ كأنها تعبر عتبةً بين عالمين. لم يَعُد الرصيف مجرد شريطٍ من الإسفلت اعتادت دهسه على عجل، بل صار لوحةً متقنة التفاصيل تنتظر عينيها كي تتعلّم قراءتها.
آثار الأقدام: في زاويةٍ مُبلّلة بظل شجرةٍ سميكة، رأت طفلٍ جارنهم . تذكّرتُ صوته وهو يركض عادةً بجوار أمّه، وسمعتُه بوضوح داخل رأسها رغم أن العالم من حولها أبكم.
ظلال الأغصان، ترسم على الرصيف نوطاتٍ رمادية تتحرّك ببطء كلما مالت الشمس.
بلا خشخشة أوراق ولا نقيق عصافير، صار شكلاً خالصًا من الفن الصامت؛
تراه، تشعر به لكن لا تسمعه.
لطالما سمعت صفير الريح ولم تشعر بإحساسها الفعلي على الجلد؛ اليوم انعكست الحواس: غاب الصوت وتعاظم اللمس، فصار الهواء رسالةً تُقرأ بالأصابع.
الكائنات الصغيرة: نملةٌ وحيدة
انعكاسات الزجاج.. شعرت أنها ليست وحدها رغم الفراغ الصوتي، فالعالم كان يكلمها بلغةٍ أخرى: لغة الضوء والظل والملمس والذكريات. بدت التجربة أشبه بزيارة مفاجئة إلى معبدٍ مفتوح في السماء، حيث الصمت هو الكاهن و هذا الحي تحول إلى حرم، وهي الحاجّ الذي وصل أخيرًا مُنصتًا بإجلال.
عند هذه النقطة وجدت أنفاسي أصبحت أشبه بنبض طبولٍ بدائية؛ تسمعها داخليًّا لا في الهواء، ومع كل شهيقٍ يعلو ستارٌ عن مشهدٍ جديد من مسرح التفاصيل المنسيّة
.4
. محاولة الفهم
أمسكت الجوال مرة أخرى وبدأت تبحث على أمل العثور على تفسيرٍ علمي أو أي خبر يشرح ما يحدث ،لكن لا شيء
فتشت في المراجع عن ظواهر مشابهة: انقطاع الأصوات الجماعي، ظلال الصمت في الأساطير… لا إجابة.
ومع مرور الوقت أدركت أن السؤال الأهم ليس "لماذا صمت العالم؟" بل "ماذا يمكنها أن تسمع في الداخل حين يسكت الخارج؟".
5. غروب
حلّ المساء وهي جالسة على في شرفة غرفتها تراقب الغروب.
شريط ذكرياتٍ يمرُّ سريعًا: نداء أمها من المطبخ، ضحكات صديقاتها وتعليقاتهم أثناء مشاهدة فلم، حتى ضجيج الميترو الذي كانت تشكو منه. شعرتُ بامتنانٍ حادّ لكل تلك الأصوات
التي كوّنت موسيقى حياتها اليومية. في غيابها، اكتشفتُ قيمتها الحقيقية.
حين أظلمت السماء، خُيِّل إليها أنها سمعت خفقة جناح أو رنّة معدنية بعيدة، لكن قد يكون عقلها يختلقها. مع ذلك،
لم تعد خائفًة من الصمت. بل تمكّنتُ من تذوّقه: هو مساحةٌ للتأمّل، مرآةٌ تعكس ضوضاء الداخل.
وعدت نفسها لو عاد الصوت غدًا، سأصغي إليه بشغف كمن يسمع لحنه المفضّل للمرة الأولى. وإن طال الصمت، فقد تعلّمت أن تعيش وأن تنصت لما يدور خلف ضلوعها.
الضجيج ليس عدوًّا بل دليل حياة، وأن السكون ليس فراغًا بل فرصة لاكتشاف الذات.
و أن خلف كل نغمة قصّة، وخلف كل قصّة قلبٌ يخفق. فلنصغِ… قبل أن يُسكتنا الصمت مجددًا.